مكائد الشيطان
وبعد:
«فإن الله
سبحانه وتعالى ابتلى الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين، وصاحب لا ينام ولا
يغفل عنه، يراه هو وقبيله من حيث لا يراه، يبذل جهده في معاداته في كل حال،
ولا يدع أمرًا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله إليه، ذلكم
الشيطان الذي أخبرنا الله بعداوته لنا، وأكثر في كتابه من ذكر خدعه ومكائده
وخطواته التي يستدرج بها الناس للخروج عن الصراط المستقيم وكرر قصته مع
أبينا آدم - عليه السلام - لتكون نصب أعيننا دائمًا»[1]. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ
لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17]. وقال تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208].
قال البغوي- رحمه الله -: «أي: لا تسلكوا الطُّرُقَ التي يدعوكم إليها الشيطان، فإنه يُورِدُكُم موارِدَ العَطَبِ»[2].
ومن شره أن
ه يوسوس للعبد، قال تعالى:﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 6]. فذكر وسوسته أولًا ثم ذكر محلها ثانيًا وأنها في صدور الناس.
والوسوسة
أظهر صفات الشيطان، وأشدها شرًا، وأقواها تأثيرًا، وهي أصل كل معصية وبلاء،
روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً[3] أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ»[4].
ولهذا يعرض للناس في صلاتهم ليفسد عليهم عبادتهم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: « إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا
يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا
ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ،
حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا
اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا
يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟»[5].
ومن شرِّهِ
الإفساد بين المؤمنين بكل طريقة وحيلة، فقد نزغ بين يوسف - عليه السلام -
وإخوته، قال تعالى ذاكرًا اعتراف نبي الله يوسف بما مَنَّ الله عليه: ﴿ وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ
هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ
الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ
إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100].
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»[6].
قال النووي: وهذا الحديث من معجزات النبوة، ومعناه أيس أن يعبده أهل جزيرة
العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتنة
ونحوها[7].
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ
إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ
فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ
أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ
شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ
حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ
مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ»[8].
والتحصن من الشيطان له طرق منها:
أولًا: الإخلاص: لما علم إبليس أنه لا سبيل على أهل الإخلاص استثناهم من شرطته التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83]. وقال تعالى في حق الصِّدِّيق يوسف: ﴿
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ
رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]. فالإخلاص هو سبيل الخلاص من الشيطان، وأهل الإخلاص أعمالهم كلها لله وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم لله وبغضهم لله.
قال شيخ الإسلام- رحمه الله -: «فالله تعالى يبتلي عبده المؤمن ليطهره من الذنوب والمعايب، ومن رحمته بعبده المخلص أن يصرف عنه ما يغار عليه منه، كما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]»[9].«فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا»[10]، «فلما أخلص يوسف - عليه السلام - لربه، صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، فالإخلاص هو سبيل الخلاص»[11].
ثانيًا: قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، روى أبو داود في سننه من حديث أبي قتادة- رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلى ِأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وَهُمَا يُصَلِّيَانِ اللَّيلَ.. وجاء في آخر الحديث: أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ النَّبِيُ- صلى الله عليه وسلم - عَنْ سَبَبِ رَفعِ صَوتِهِ بِالقُرْآنِ، فَقَالَ: أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ[12].
ثالثًا: قراءة سورة البقرة: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ»[13].
رابعًا: قراءة
آية الكرسي عند النوم: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة- رضي الله
عنه - قصة قبضه على الشيطان.. وفي آخر الحديث علَّمه أن يقرأ آية الكرسي
فإنه لن يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فلما أخبر أبو
هريرة النبي- صلى الله عليه وسلم - بذلك قال: «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ»[14].
خامسًا: قراءة المعوذتين: روى أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمره بقراءة المعوذتين وقال له: «يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا»[15].
ومن المواضع
التي ثبت في السنة أنها تُقرأ فيها: حين يصبح المؤمن، وحين يُمسي، وعند
النوم، وأدبار الصلوات، والرقية بهما على المسحورين، والمرضى وغير ذلك.
سادسًا: التهليل مائة مرة: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ
قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ
الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ
مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ
مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ
حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ»[16].
سابعًا: التسمية
عند الخروج من البيت، وعند الجماع، وعند الدخول إلى الخلاء، وعند الطعام:
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا
دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ
طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا
دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ:
أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ،
قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ»[17][18].
ثامنًا: وهو من أهمها معرفة تفاصيل عداوته وطرق خداعه التي جاء بيانها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
والاستعانة في ذلك بكتب أهل العلم الشارحة لهذه الأمور، ومنها: كتاب ابن
القيم إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، وكتاب ابن الجوزي المسمى تلبيس
ابليس.. وغيرها.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق