الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

المجلس الثاني في فضائل الصحابة 1437هـ



المجلس الثاني
الأربعاء 26 صفر 1437 هـ
تابع مقدمة في فضائل الصحابة
رضوان الله عليهم

الوعيد الشديد فيمن آذى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( مَن سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) [22] .
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 2340خلاصة حكم المحدث: حسن بجموع الطرق
*موقف السلف الصالح من الصحب الكرام .
لقد عرف السلف الصالح فضل الصحابة الكرام وبيَّنوا ذلك وردوا على كل من أراد انتقاصهم _رضي الله عنهم_ قال ابن عمر _رضي الله عنهما_ " لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمره " [23].
) المَقَامُ: مَوضع القَدَمين. و المَقَامُ المجلسُ . و المَقَامُ الجماعة من الناس . و المَقَامُ الموقفُ المُهِمّ . المعجم الوسيط .(
[ عن ] ابن عمر يقول : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره .

الراوي: نسير بن ذعلوق المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 133خلاصة حكم المحدث: حسن.
وفي رواية
عن ابنِ عباسٍ قال لا تسبوا أصحابَ محمدٍ ، فلمقامُ أحدِهم ساعةً - يعني مع النبيِّ - ، خيرٌ من عملِ أحدِكم أربعين سنة
الراوي: - المحدث:الألباني - المصدر: شرح الطحاوية - الصفحة أو الرقم: 469 - خلاصة حكم المحدث: صحيح .
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك وسأله أمعاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز فقال " لتراب في منخري معاوية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز "
رواه ابن عساكر 59/208 وانظر : منهاج السنة 6/227 .
وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي -رحمه الله- فقال : يا أبا زرعة أنا أبغض معاوية . قال : لِمَ ؟ قال : لأنه قاتَل عليا . فقال أبو زرعة : إن ربَّ معاوية ربٌّ رحيم وخصمَ معاوية خصمٌ كريم فما دخولك أنت بينهما _رضي الله عنهم_ أجمعين  .
رواه ابن عساكر 59/141وانظر فتح الباري 13/86 عمدة القاري 24/215 .
وقال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- " إذا رأيت رجلا يذكر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوء فاتهمه على الإسلام " .
شرح أصول الاعتقاد للالكائي 7/1252 الصارم المسلول 3/ 1058.
 وقال –رحمه الله تعالى- " لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فان تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع " .
الصارم المسلول 3/1057 العقيدة 1/81.
وقال بشر بن الحارث _رحمه الله تعالى_ " مَن شتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين " .رواه ابن بطة في الإبانة /162.
 ولعل كثيراً من الكُتاب ممن في قلوبهم مرض الذين ينتقصون أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في الصحف وغيرها يرون أن الوقت لم يحن بعد لانتقاص القرآن والسنة فرأوا أن تقليل شأن الصحابة الكرام عند الناس هو من أخصر الطرق لرد الكتاب والسنة كما قال أبو زرعة _رحمه الله تعالى_ " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة " ا.هـ.
تاريخ بغداد 38/132 والكفاية /97 .



* الزنادقة هم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون أعظم الكفر.
* كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه ( الحلاج )
من كتاب الرفض أساس الزندقة (مجموع فتاوى ابن تيمية)
وقال السرخسي _رحمه الله تعالى_ " فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب " ا.هـ أصول السرخسي 2/134 . .
وقال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك _رحمه الله تعالى_ لمن انتقص الصحابة " علمتَ أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى -عليه السلام- وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى -عليه السلام- فما بالك ياجاهل سببت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟ وقد علمتُ من أين أوتيتَ لم يشغلك ذنبك أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك ، ولقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين ؟ أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ، ولرجوت لهم أرحم الراحمين ، ولكنك من المسيئين فمن ثَمَّ عبت الشهداء والصالحين ، أيها العائب لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لو نمتَ ليلك ، وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك ، وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فويحك لا قيام ليل ، ولا صوم نهار ، وأنت تتناول الأخيار فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى .. وبم تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين ، وشر الخلف خلف شتم السلف لواحد من السلف خير من ألف من الخلف " ا.هـ.
رواه المعافي في الجليس الصالح 2/392.

رواه المعافى بن زكريا النهرواني الجريري في الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي 2/392.
وقال ابن الصلاح _رحمه الله تعالى_ " إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة , ومَن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتد بهم في الإجماع " ا.هـ ( [32] .
مقدمة ابن الصلاح /428 .
*ذكر فضلهم في كتب العقائد رفعا لشأنهم وعلوا لمنزلتهم :
قال الطحاوي _رحمه الله تعالى_ " ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و لا نُفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم ، وبغير الحق يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان " ا.ه[33].
عقيدة الطحاوي مع شرحها 2/689
وذكر الحميدي _رحمه الله تعالى_ أن من السنة " الترحم على أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كلهم فإن الله عز وجل قال   ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ )(الحشر:10) فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم ، فمن سبهم أو تنقصهم أو أحدا منهم فليس على السنة وليس له في الفيء حق ، أخبرنا غير واحد عن مالك بن أنس " ا.هـ
أصول السنة للحميدي بذيل المسند 2/176 .


مصادر الموضوع :-
* من موضوع فضائل الصحابة رضي الله عنهم للدكتور . نايف بن أحمد الحمد . http://www.saaid.net/mohamed/s/1.htm
* تفسير الآيات من تفسير «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» للشيخ السعدي رحمه الله .
* تحقيق الأحاديث موقع الدرر السنية . http://www.dorar.net/hadith?s=1




المجلس الأول فضائل الصحابة 1437هـ




المجلس الأول
الأربعاء الموافق 19  صفر 1437هــ
مقدمة في
فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وســلم
نبدء بحول من الله وقوة منه  في الحديث عن أصحــاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن نسبهم سيرتهم جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حيــاتهم على مــاذا عاشوا وعلى أي شيء ماتوا.
ســـــؤال :- لمـــاذا نتــحدث عن الصحــابة ؟
*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فقد دلت النصوص الشرعية والشواهد التاريخية على أن جيل الصحابة رضي الله عنهم أفضل أجيال هذه الأمة, وأن لهم من السبق والمكانة العالية ما ليس لغيرهم فهم أعلم الأمة وأتقاها وأحقها بالإتباع. وأهل السنة والجماعة يُبَجِلون الصحابة لما قاموا به من أعمال عظيمة لنصرة هذا الدين ونشره في أرجاء المعمورة والتمكين له في الأرض هذا إلى جانب ما خصهم به الله عز وجل من الشهادة لهم بالإيمان والصدق وبما أخبرنا به عن رضاه عنهم والتوبة عليهم, كذلك بّين النبي فضيلتهم ومنزلتهم وأنهم خير قرون هذه الأمة ونهى الله عن التعرض لهم بالانتقاص أو السب وقد دأبت الأمة جيلاً بعد جيل على ترديد مناقبهم وذكر فضائلهم للتأسي بهم واتخاذهم القدوة الحسنة .

" وإن من أولى ما نظر فيه الطالب ، وعني به العالم بعد كتاب الله -عز وجل- سنن رسوله -صلى لله عليه وآله وسلم- فهي المبيِّنة لمراد الله -عز وجل- من مجملات كتابه ، والدالة على حدوده ، والمفسرة له ، والهادية إلى الصراط المستقيم صراط الله مَن اتبعها اهتدى ،ومن سُلبها ضل وغوى وولاه الله ما تولى ، ومِن أَوكد آلات السنن المعينة عليها ، والمؤدية إلى حفظها معرفة الذين نقلوها عن نبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس كافة ، وحفظوها عليه ،وبلغوها عنه ، وهم صحابته الحواريون ( معنى الحواري  في اللغة - حَوَاريُّ :الحَوَاريُّ : مُبَيَّضُ الثياب .و الحَوَاريُّ الذي أخلص واختير ونُقِّيَ من كلِّ عيب .و الحَوَاريُّ الصاحبُ و الناصرُ . والجمع : حَواريُّونَ .والحواريُّون : أنصار عيسى عليه السلام .      ( المعجم الوسيط ) .
 الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين حتى أكمل بما نقلوه الدين ، وثبت بهم حجة الله -تعالى -على المسلمين فهم خير القرون ، ( ففي الحديث خيرُ النَّاسِ قَرني ، ثمَّ الَّذين يَلونَهم ، ثمَّ الَّذين يَلونَهم ، ثمَّ يجيءُ أقوامٌ : تَسبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَهُ ويمينُه شهادتَه) .
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث:البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 2652خلاصة حكم المحدث: [صحيح]  .
وخير أمة أخرجت للناس ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم ، وثناء رسوله -عليه السلام- ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ، ولا تزكية أفضل من ذلك ، ولا تعديل أكمل منه قال الله تعالى ذكره :-
( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود)( الفتح: 29) " .
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية الكريمة :-
يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم  ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، ( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ) أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود.( يَبْتَغُونَ ) بتلك العبادة ( فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ) أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه.( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) أي: قد أثرت العبادة - من كثرتها وحسنها- في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت [ بالجلال ] ظواهرهم.
" والصحابة حبهم سنة والدعاء لهم قربة والإقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة "
كما قال الإمام أحمد في شرح أصول السنة "ومن انتقص أحداً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أبغضه بحدث كان منه أو ذكر مساوئه كان مبتدعا حتى يترحم عليهم جميعا، ويكون قلبه لهم سليما" .
وهم صفوة خلق الله تعالى بعد النبيين -عليهم الصلاة والسلام- فعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ في قول الله عز وجل ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) (النمل:59) قال : أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
رواه الطبري 20/2 والبزار وانظر : تفسير ابن كثير 3/370 الاستيعاب 1/13تفسير القرطبي 13/220 وبذلك فسرها سفيان الثوري. كما رواه عنه أبو نعيم في الحلية 7/77 وابن عساكر 23/463.
وقال سفيان في قوله عز وجل ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)(الرعد: 28) قال : هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم . رواه سعيد بن منصور 5/ 435 .
وقال قتادة في قوله تعالى ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِه)(البقرة:121) هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -آمنوا بكتاب الله وعملوا بما فيه.فتح الباري 13/508 .
وقال ابن مسعود _رضي الله عنه_ " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابهِ خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وزراءَ نبيهِ يُقاتِلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ " .
حققه الألباني - شرح الطحاوية - برقم: 469 - حكم المحدث: حسن موقوف .

والصحابي هنا هو مَن لقي النبي -صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به ، ومات على ذلك .
وقد ورد في فضلهم آيات وأحاديث كثيرة منها : قوله تعالى           ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100)
وقال تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18) .
قال السعدي رحمه الله في تفسير الآية ( يخبر تعالى بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة - التي يقال لها « بيعة الرضوان » لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها « بيعة أهل الشجرة » - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائرا هذا البيت، معظما له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) من الإيمان، ( فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) .
شكرا لهم على ما في قلوبهم، زادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم، وتطمئن بها قلوبهم، ( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) وهو: فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها، جزاءا لهم، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته. (ا.هــ)
قصة الحديبية - الراوي: المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 2731 .
( لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها ).صحيح مسلم » كتاب فضائل الصحابة » باب من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم.
وفي آيات عديدة ذكرهم الله تعالى وترضى عنهم .
ومما جاء في السنة :
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) .الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2540 .
" وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة ، وضيق الحال بخلاف غيرهم ، ولأن إنفاقهم كان في نصرته -صلى الله عليه وسلم- ، وحمايته ، وذلك معدوم بعده ، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم.
وقد قال تعالى ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً )(الحديد:10) وهذا كله مع ما كان فيهم في أنفسهم من الشفقة ، والتودد ، والخشوع ، والتواضع ، والإيثار ، والجهاد في الله حق جهاده ، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ، ولا ينال درجتها بشيء ، والفضائل لا تؤخذ بقياس ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ا.هـ شرح مسلم للنووي 16/93 شرح سنن ابن ماجه 1/15 تحفة الأحوذي 10/246 .
وقال البيضاوي _رحمه الله تعالى_ : " معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه ، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص ، وصدق النية ) ا.هـ  فتح الباري 7/34 .
" مع ما كانوا من القلة ، وكثرة الحاجة والضرورة " [13] وقيل " السبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام ، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها ، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدد المتقدمين ، وقلة أنصارهم فكان جهادهم أفضل ، ولأن بذل النفس مع النصرة ، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها " ا.هـ
شرح مسلم للنووي 16/93 شرح سنن ابن ماجه 1/15 تحفة الأحوذي 10/246 .
- ومما جاء في فضلهم -رضي الله عنهم- حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) .
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 2652خلاصة حكم المحدث: [صحيح] .
" وإنما صار أول هذه الأمة خير الناس ؛ لأنهم آمنوا به حين كفر الناس ، وصدقوه حين كذبه الناس ، وعزروه ، ونصروه ، وآووه ، وواسوه بأموالهم وأنفسهم ، وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوهم في الإسلام " ا.هـ  .التمهيد 20/251 فيض القدير 3/ 478.
ومما جاء في فضلهم ما رواه  الإمام مسلم في صحيحه  قال : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَإِسْحاَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ كُلُّهُمْ ، عَنْ حُسَيْنٍ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ ، عَنْ مُجَمَّعِ بْنِ يَحْيَي ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قُلْنَا : لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ ، قَالَ : فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ : مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا ؟ قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ ، قَالَ : أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ ، قَالَ : فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ : النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي ، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي ، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ " .
الكتب » صحيح مسلم » كتاب فضائل الصحابة » باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه وبقاء أصحابه أمان للأمة / حديث رقم 4602.

وجــاء في شرح النووي على صحيح مسلم
قوله صلى الله عليه وسلم : ( النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ) قال العلماء : ( الأمنة ) بفتح الهمزة والميم ، والأمن والأمان بمعنى . ومعنى الحديث أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية . فإذا انكدرت النجوم ، وتناثرت في القيامة ، وهنت السماء ، فانفطرت ، وانشقت ، وذهبت ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ) أي من الفتن والحروب ، وارتداد من ارتد من الأعراب ، واختلاف القلوب ، ونحو ذلك مما أنذر به صريحا ، وقد وقع كل ذلك .(ا.هــ)
[ ص: 66 ] قوله صلى الله عليه وسلم : ( وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) معناه من ظهور البدع ، والحوادث في الدين ، والفتن فيه ، وطلوع قرن الشيطان ، وظهور الروم وغيرهم عليهم ، وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك . وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم .
 وهو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض " [18] .تحفة الأحوذي 10/156 فيض القدير 6/296 .


يتبع إن شاء الله



السبت، 5 ديسمبر 2015

ثلاث وصايا نبويَّة عظيمة



ثلاث وصايا نبويَّة عظيمة 

للشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

لقد جمع الله ـ جلَّ وعلا ـ لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم بديعَ الكلِم، وجوامع الوصايا، وأكمل القول وأتمَّه وأحسنَه، ومن كان ذا صلةٍ وثيقةٍ بالسُّنة وهديِ خير العباد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فاز في دنياه وأخراه.

وهذه وقفةٌ مع وصيَّةٍ وجيزةٍ وموعظةٍ بليغةٍ مأثورةٍ عن نبيِّنا الكريم ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ جمعت الخير كلَّه ووفَّته؛ ففي «مسند الإمام أحمد»، و«سنن ابن ماجه» وغيرهما من حديث أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه أنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ، وفي رواية عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ، فَقَالَ ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ: «إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَأَجْمِعِ اليَأسَ مِمَّا فِي يَدَيِ النَّاسِ»(1) وهو حديثٌ حسنٌ بما له من شواهد؛ وقد جمع هذا الحديث العظيم ثلاثة وصايا عظيمةً جمعت الخير كلَّه، مَن فهمها وعملَ بها حازَ الخير كلَّه في دنياه وأخراه.

الوصيَّة الأولى: وصيَّةٌ بالصَّلاة والعناية بها وحسن أدائها.

والوصيَّة الثَّانية: وصيَّةٌ بحفظ اللِّسان وصيانته.

والوصيَّة الثَّالثة: دعوةٌ إلى القناعة وتعلُّق القلب بالله وحده.

في الوصيَّة الأولى: دعا نبيُّنا ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ من قام في صلاته ـ أي شرع فيها ـ أن يصلِّي صلاةَ مودِّعٍ، ومن المعلوم لدى الجميع أنَّ المودِّع يستَقصي في الأقوال والأفعال ما لا يستَقصي غيرُه، وهذا معروفٌ في أسفار النَّاس وتنقُّلاتهم؛ فمن ينتقل من بلدٍ على أمل العودة له ليس شأنه كشأن من ينتقل منه على أمل عدم العودة إليه، فالمودِّع يستقصي ما لا يستقصي غيره، فإذا صلَّى العبد صلاته مستحضرًا أنَّها صلاته الأخيرة، وأنَّه لن يصلِّيَ غيرها جَدَّ واجتهد فيها، وأحسنَ في أدائها، وأتقنَ ركوعَها وسجودَها وواجباتِها ومستحبَّاتِها.

ولهذا ينبغي على عبد الله المؤمن أن يستَحضر هذه الوصيَّة في كلِّ صلاةٍ يصلِّيها؛ يصلِّي صلاته صلاةَ مودِّع، يستَشعر من خلال ذلك أنَّها الصَّلاة الأخيرة، وأنَّه لن يصلِّيَ بعدها، فإذا استشعر ذلك دعاه هذا الاستشعار إلى حسن الأداء، وتمام الإتقان.

ومن أحسنَ في صلاته ساقته إلى كلِّ خيرٍ وفضيلة، ونهته عن كلِّ شرٍّ ورذيلةٍ، وعُمِر قلبُه بالإيمان، وذاق بذلك طعمَ الإيمان وحلاوته، وكانت صلاتُه قرَّةَ عينٍ له، وراحةً وأُنسًا وسعادةً.

والوصيَّة الثَّانية: وصيَّةٌ بحفظ اللِّسان، وأنَّ اللِّسانَ أخطر ما يكونُ على الإنسان، وأنَّ الكلمةَ إذا لم تخرُج فإنَّ صاحبَها يملكها، أمَّا إذا خرجَت من لسانه ملكَتْه وتحمَّل تَبِعاتِها، ولهذا قال ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ: «لَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا»؛ أي جاهِد نفسَك على منع لسانك من كلِّ كلمةٍ تخشى أن تعتذر منها، وكلِّ كلمةٍ تتطلَّب منك اعتذرًا؛ فإنَّك ما لم تتكلَّم بها فإنَّك تملكها، وأمَّا إذا تكلَّمتَ بها ملكَتكَ.

وفي وصيَّة النَّبيِّ ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ لمعاذٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى، يَا نَبِيَّ الله! فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ـ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ ـ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»(2).

فاللِّسان له خطورةٌ بالغةٌ، وقد جاء في حديثٍ ثابتٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ؛ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»(3).

وقول نبيِّنا ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ في هذه الوصيَّة الجامعة: «لَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا» فيه دعوةٌ إلى محاسبة النَّفس فيما يقوله الإنسانُ، بأن يتأمَّل فيه؛ فإن وجده خيرًا تكلَّم به، وإن وجده شرًّا امتنَع من قوله، وإن كانَ الَّذي سيقوله مشتَبهٌ عليه لا يدري أشرٌّ هو أم خيرٌ؛ يكفُّ عنه اتِّقاءً للشُّبهات، حتَّى يستبينَ له أمرُه، ولهذا قال ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»(4) ، وكثيرٌ منَ النَّاس يورِّطون أنفسَهم ورطاتٍ عظيمةً بكلمةٍ يقولونها بألسنَتهم لا يُلقُون لها بالًا، ثمَّ يترتَّب عليها من التَّبِعات في الدُّنيا والآخرة ما لا يحمَدون عاقبتَه، والعاقل منَ النَّاس من يزِن كلامَه، ويصونُ حديثَه، ولا يتكلَّم إلَّا كما قال نبيُّنا ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ بكلامٍ لا يحتاج معه إلى اعتذارٍ.

وقوله: «بكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا» يحتَمل: أي عندما تقِف بين يدَي الله، أو تعتذر منه غدًا: أي من النَّاس حينما يطالبونك بتَبِعات كلامك وأقوالك.

وعلى المعنى الأوَّل؛ فله تعلُّقٌ عظيمٌ بالصَّلاة، إذ بأيِّ عذرٍ يلقى المضيِّعُ للصَّلاة ربَّه غدًا، وهي أوَّل ما سيُسأل عنه.

والوصيَّة الثَّالثة؛ فيها دعوةٌ إلى القناعة، وتعليق القلب بالله وحده، واليأس تمامًا ممَّا في أيدي النَّاس، قال: «وَأَجْمِعِ اليَأسَ مِمَّا فِي يَدَيِ النَّاس»؛ أي أجمِع قلبَك، واعزِم وصمِّم في فؤادك على اليأس من كلِّ شيءٍ في يد النَّاس؛ فلا تَرْجُه من جهتهم، وليكن رجاؤُك كلُّه بالله وحده ـ جلَّ وعلا ـ، وكما أنَّك بلسان مقالك لا تسأل إلَّا الله، ولا تطلب إلَّا من الله؛ فعليك كذلك بلسانِ حالك أن لا ترجو إلَّا الله، وأن تيأس من كلِّ أحدٍ إلَّا من الله، فتقطع الرَّجاءَ من كلِّ النَّاس، ويكون رجاؤك بالله وحدَه، والصَّلاة صلةٌ بينك وبين ربِّك؛ ففيها أكبرُ عونٍ لك على تحقيق هذا المطلب.

ومَن كان يائسًا ممَّا في أيدي النَّاس عاش حياتَه مهيبًا عزيزًا، ومَن كان قلبه معلَّقًا بما في أيدي النَّاس عاش حياته مهينًا ذليلًا، ومَن كان قلبه معلَّقًا بالله لا يرجو إلَّا الله، ولا يطلب حاجته إلَّا من الله، ولا يتوكَّل إلَّا على الله كفاه اللهُ عز وجل في دنياه وأخراه، والله جلَّ وعلا يقول: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)[سورة الزمر : 36]، ويقول ـ جلَّ وعلا ـ: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[سورة الطلاق : 3]، والتَّوفيق بيد الله وحده لا شريك له.

***

--------------

(1) رواه أحمد (23498)، وابن ماجه (4171)، انظر: «الصَّحيحة» (401).
(2) رواه أحمد (22016)، والترمذي (2616)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (5136).
(3) رواه أحمد (11908)، والترمذي (2407) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع» (351).
(4) رواه البخاري (6018)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

الأحد، 29 نوفمبر 2015

الصحة والفراغ كتاب الرقاق المجلس الأول 1437هــ




كِتَاب الرِّقَاقِ
المجلس الأول 16 صفر 1437هـ



الباب الأول
 الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ وَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ

********

6049 قالَ الإمام البُخاريُّ ــ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ــ فِي "صحيحه" حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ قَالَ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ .



الشرح


قَالَ مُغْلَطَايْ : عَبَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِهِمْ بِالرَّقَائِقِ قُلْتُ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالنَّسَائِيُّ فِي " الْكُبْرَى " وَرِوَايَتُهُ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَالرِّقَاقُ وَالرَّقَائِقُ جَمْعُ رَقِيقَةٍ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَا يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ رِقَّةً قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الرِّقَّةُ الرَّحْمَةُ وَضِدُّ الْغِلَظِ وَيُقَالُ لِلْكَثِيرِ الْحَيَاءِ رَقَّ وَجْهُهُ اسْتِحْيَاءً وَقَالَ الرَّاغِبُ : مَتَى كَانَتِ الرِّقَّةُ فِي جِسْمٍ فَضِدُّهَا الصَّفَاقَةُ كَثَوْبٍ رَقِيقٍ وَثَوْبٍ صَفِيقٍ وَمَتَى كَانَتْ فِي نَفْسٍ فَضِدُّهَا الْقَسْوَةُ كَرَقِيقِ الْقَلْبِ وَقَاسِي الْقَلْبِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَتَرْقِيقُ الْكَلَامِ تَحْسِينُهُ .


قالَ الحافظ ابْن حجرٍ العسقلانيُّ ــ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ــ في كتابه "فتح الباري": قوله: « نعمتان » تثنية نعمة، وهي الحالة الحسنة، وقيلَ: هيَ المنفعة المفعولة علىٰ جهة الإحسان للغير، و« الغبن » بالسُّكون وبالتَّحريك.


وقالَ الجوهريُّ: هوَ فِي البيع بالسُّكون، وفي الرَّأي بالتَّحريك، وعلىٰ هـٰذا فيصحُّ كلٌّ منهما فِي هـٰذا الخبر، فإنَّ مَنْ لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبنَ لكونه باعهما ببخس؛ ولم يحمد رأيه فِي ذٰلك.


قالَ ابن بطَّال: معنى الحديث: أنَّ المرء لا يكونُ فارغًا حتَّىٰ يكونُ مكفيًّا صحيح البدن، فمَنْ حصلَ لهُ ذٰلك فليحرص علىٰ أنْ لا يغبن بأنْ يترك شكر الله علىٰ ما أنعم به عليه، ومِنْ شُكره: اِمْتثال أوامره، واجْتناب نواهيه، فمَنْ فرطَ فِي ذٰلك فهوَ المغبون.
وأشارَ بقوله: « كثير مِنَ النَّاس » إلىٰ أنَّ الَّذي يوفِّق لذٰلك قليل.


وقالَ ابن الجوزيُّ: قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اِجتمعا فغلب عليه الكسل عَنِ الطَّاعة فهوَ المغبون، وتمامُ ذٰلكَ أنَّ الدُّنيا مزرعة الآخرة، وفيها التِّجارة الَّتي يظهر ربحها فِي الآخرة،
° فمَنْ اِسْتعمل فراغه وصحَّته فِي طاعة الله فهوَ المغبوطُ.
° ومَنْ اِسْتعملهما فِي معصية الله فهوَ المغبونُ.


لأنَّ الفراغ يعقبه الشُّغل، والصِّحة يعقبها السُّقم، ولو لم يكن إلَّا الهرم، كما قيلَ:
يَسُرّ الْفَتَى طُول السَّلامَة وَالبَقَا °°° فكيف تَرَىٰ طُول السَّلامة يَفْعَل
يَرُدّ الْفَتَى بَعْد اِعْتدَال وَصِحَّة °°° يَنُوء إِذَا رَامَ الْقِيَام وَيُحْمَل



وقالَ الطّيّبيُّ: ضربَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُكلَّف مثلاً بالتَّاجر الَّذي لهُ رأس مال، فهو يبتغي الرِّبح معَ سلامة رأس المال، فطريقه فِي ذٰلك أنْ يتحرَّىٰ فيمَنْ يُعامله ويلزم الصِّدق والحذق لئلَّا يغبن، فالصِّحة والفراغ رأس المال، وينبغي لهُ أنْ يُعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النَّفس وعدوِّ الدِّين، ليربح خيري الدُّنيا والآخرة، وقريب منه قول الله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الآيات. وعليه أنْ يجتنب مُطاوعة النَّفس، ومُعاملة الشَّيطان لئلَّا يضيع رأس ماله مع الرِّبح.


وقوله في الحديث: « مغبون فيهما كثير مِنَ النَّاس »، كقوله تعالىٰ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. فالكثير فِي الحديث فِي مقابلة القليل فِي الآية.

وقالَ القاضي وأبو بكر بن العربي: اِختُلف فِي أوَّل نعمة اللهِ على العبد، فقيلَ: الإيمان. وقيلَ: الحياة. وقيلَ: الصِّحة.



والأوَّل أولىٰ، فإنَّهُ نعمةٌ مُطلقةٌ، وأمَّا الحياة والصِّحة فإنَّهما نعمةٌ دنيويَّةٌ، ولا تكون نعمةً حقيقةً إلَّا إذا صاحبت الإيمان، وحينئذٍ يغبن فيها كثير مِنَ النَّاس، أي: يذهب ربحهم أو ينقص، فمَنْ اِسْترسلَ معَ نفسه الأمارَّة بالسُّوء؛ الخالدة إلى الرَّاحة، فتركَ المحافظة على الحُدود، والمواظبة على الطَّاعة، فقد غبن، وكذٰلك إذا كانَ فارغًا فإنَّ المشغول قد يكونُ لهُ معذرة بخلاف الفارغ فإنَّهُ يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجَّة.اهـ.

([ « فتح الباري شرح "صحيح البُخاريِّ" »
/ (11 / 230، 231)  / "كِتَاب الرِّقَاقِ" (81)
/"بَاب ما جاءَ فِي الرِّقاق وأن لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَةِ" ])






شرح الشيخ بن عثيمين رحمه الله


والرقاق ما يرقق القلب ويلينه ذلك أن القلب قد يقسو بالمعاصي وكثرة الذنوب فيحتاج إلى شيء يرققه ، النصوص التي توجب رقة القلب يسميها أهل العلم: الرقاق ، لأنها ترقق القلب وتلينه.


صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام إن هاتين النعمتين لمغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ، فإن كثير من الناس قد أضاعهما !! كثير من الناس تمضي عليه أيام طويلة وهو صحيح البدن فارغ وتضيع عليه ، وهذا غُبن بلا شك ، ولا يعرف هذا الغبن إلا إذا مرض يقول: كيف لم أفعل كذا في أيام الصحة ؟ كيف ذهبت الأيام ويتبين له الغبن ؟ وكذا الفراغ فرزقه يأتيه على عتبة بابه لا يحتاج إلى طلبه ، ثم إذا به ينشغل في طلب الرزق أو في غيره فحينئذٍ يذكر أنه مغبون في ما سبق حيث لم يعمل في فراغه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( مغبون فيهما كثير من الناس ) وأفاد الحديث أن من الناس من لا يُغبن فيهم ، وهؤلاء هم أهل الحزم والعزم الذين يقدرون الأمور ، ويعرفون أن الوقت أسرع مما يتصورون ، فكم من إنسان يستبطئ الأجل فإذا به قد حل ، وكم من إنسان يستبطئ زوال النعمة فإذا بها قد زالت ، ويكون صحيح البدن فيقول متى أعجز عن العمل ؟ فإذا هو به يُصاب بآفة تمنعه من العمل ، وهكذا الدنيا لا تأمنها .... لذلك يجب على الإنسان أن يكون حازماً ، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( خذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ) (1).






(1) أخَذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَنكِبي فقال : ( كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ ) . وكان ابنُ عُمرَ يقولُ : إذا أمسيْتَ فلا تنتَظِرِ الصباحَ، وإذا أصبحْتَ فلا تنتظِرِ المساءَ، وخُذْ من صحتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك .

الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري برقم: 6416 .