الأربعاء، 27 مارس 2013

الورع




الورع
د. أمين بن عبدالله الشقاوي
 


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد:

فمن الصفات المحمودة التي حث عليها الشرع، ورغب فيها: الورع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأما الورع فإنه الإنه الإمساك عما قد يضر، فتدخل فيه المحرمات، والشبهات، لأنها قد تضر، فإن من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى، يوشك أن يواقعه"[1].

وقال الشيخ ابن عثيمين:

"الورع ترك ما يضر، ومن ذلك ترك الأشياء المشتبه في حكمها، والمشتبه في حقيقتها، فالأول اشتباه في الحكم هل هو حرام أو حلال؟ والثاني اشتباه في الحال، فالإنسان الورع هو الذي إذا اشتبه الأمر عليه تركه إن كان اشتباهًا في تحريمه، وفعله إن كان اشتباهًا في وجوبه لئلا يأثم بالترك"[2] اهـ. روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه"[3].

وروى الحاكم في المستدرك من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فضل العلم أحب إلىَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع"[4].

وروى النسائي من حديث الحسن بن علي قال: حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"[5].

وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم؟ فقال: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"[6].

والورع بابه واسع يشمل الورع في النظر، والسمع، واللسان، والبطن، والفرج، والبيع، والشراء، وغير ذلك. ويكثر وقوع كثير من الناس في المحرمات والشبهات، بسبب تخلف هذه الأمور الثلاثة: الورع في اللسان، والبطن، والنظر، قال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
 
قال الإمام أحمد بن حنبل: "هو الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيلحقها بصره"[7].

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - عز وجل -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق و المغرب"[8]، ومعنى "يتبين" أي: ما يتفكر فيها، ولا يتأملها هل هي خير أو شر؟

وفي الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنه - في قصة الإفك: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش عنها، فقالت: "أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرًا" قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع"[9].
 وقال وهيب بن الورد، ولو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك حلال أو حرام.

وقد كان عليه الصلاة والسلام إمام الورعين، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقها"[10]؛ لأن الصدقة محرمة عليه، وعلى أهل بيته.

وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم- يقتفون أثره - عليه السلام -، ويتبعون سنته، فروى البخاري في صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها-: "كان لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه"[11].

وروى البخاري في صحيحه من حديث نافع - يعني عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال: "كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاث آلاف وخمسمئة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه. يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه"[12].


وقال عمر - رضي الله عنه -: "تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا"[13].

وقال عبد الله بن المبارك: "لأن أرد درهمًا واحدًا من شبهة، أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف"، وكان عمر بن عبد العزيز تسرج له الشمعة، ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ أطفأها، وأسرج عليه سراجه، وقال لامرأته يومًا: عندك درهم أشتري عنبًا؟ قالت: لا. قال: فعندك فلوس؟ قالت: لا، أنت أمير المؤمنين، ولا تقدر على درهم. قال: هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم".

وتقدم كلام الشيخ ابن عثيمين أن الاشتباه على نوعين: اشتباه في الحكم، فلا يدري المؤمن هل هو من الحلال البين؟ أو من الحرام البين؟ فهذا أمثلته كثيرة جدًا، لأنها تختلف باختلاف أفهام العلماء، فمنهم من يرى التحريم، ومنهم من يرى الحل، وقد يمثل لذلك ببعض المعاملات، والمساهمات المالية المنتشرة في هذه الأيام[14].

الثاني: الاشتباه في الحال، وقد يمثل لذلك بالدجاج المستورد من الخارج، فبعض العلماء يرى جوازه؛ لأنه من طعام أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 5]، وقد تبين لدي بعض طلبة العلم أن كثيرًا من هذا الدجاج يذبح بالصعق الكهربائي، أو غيرها من طرق الذكاة غير الشرعية، وهذا من المشتبه حاله، فالورع تركه. 

ومما ينبغي التنبيه عليه أن من تورع، وترك الشبهات، فإن الله يعوضه خيرًا مما فاته، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة، وأبي الدهماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنك لن تدع شيئًا لله - عز وجل - إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه"[15].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


[1] مجموع الفتاوى (10/615).
 [2] شرح رياض الصالحين (3/485-486).
 [3] صحيح البخاري برقم (52)، وصحيح مسلم برقم (١٥٩٩) واللفظ له.
 [4] (1/283) برقم (320)، وقال محققه: الحديث عندي أنه حسن، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم (4214).
 [5] برقم (5711) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي (5269).
 [6] برقم (2533).
 [7] الورع للمروذي (ص 111).
 [8] صحيح البخاري برقم (6477)، وصحيح مسلم برقم (988)، واللفظ له.
 [9] صحيح البخاري برقم (4750)، وصحيح مسلم برقم (2770).
 [10] البخاري برقم (2432)، ومسلم برقم (1070).
 [11] برقم (3842).
 [12] برقم (3912).
 [13] مصنف عبد الرزاق (8/152) برقم (14683).
 [14] ولمزيد من التفصيل انظر كتاب: 
"الأسهم المختلطة" للشيخ صالح العصيمي، فقد أجاد فيه وأفاد.
 [15] سبق تخريجه

منقــــــــــــــــول

بما عرفت ربك

بما عرفت ربك 



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:



فإن معرفة العبد بربه وتوحيده في عبادته حتى يخضع له تمام الخضوع ويعبده حق العبادة هي مقصد الخلق، قال جل جلاله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {الذاريات:56) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا ليعبدون أي إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً.


وقال ابن جريج ومجاهد في تفسيرها إن معناها: إلا ليعرفون، قاله ابن كثير والقرطبي والبغوي، وهذه المعرفة إنما تحصل بالتأمل في آيات الله المتلوة والكونية بقلب يستنير بنور الوحي، ويتأمل في صفات الله وأسمائه وبديع صنعه في مخلوقاته، وتفرده بتدبير أمور خلقه مستدلا لذلك بما ثبت في الوحي، قال المناوي في الفيض: فمنزلة الله عند العبد في قلبه على قدر معرفته إياه وعلمه به وإجلاله وتعظيمه، والحياء والخوف منه وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، والوقوف عند أحكامه بقلب سليم، ونفس مطمئنة، والتسليم له بدنا وروحاً وقلبا، ومراقبة تدبيره في أموره ولزوم ذكره والنهوض بأثقال نعمه ومننه، وترك مشيئته لمشيئته وحسن الظن به، والناس في ذلك درجات، وحظوظهم بقدر حظوظهم من هذه الأشياء، فأوفرهم حظاً منها أعظمهم درجة عنده وعكسه بعكسه. 


وقد ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى: أنه قيل لابن عباس: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارجاً عن المنهاج ظاعنا في الاعوجاج، عرفته بما عرَّف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه، فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف الله وهو نور الإيمان، وأن وصف اللسان حصل بكلام الله وهو نور القرآن. 


قال في درء تعارض العقل والنقل: وقد قيل لعلي رضي الله عنه: بم عرفت ربك؟ فقال: بما عرفني نفسه، لا يشبه صورة ولا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس. وعن ابن عباس حين سأله نجدة الحروري فقال: يا ابن عباس؛ بم عرفت ربك إذ عرفته؟ فأجاب بنحو من جواب أمير المؤمنين. انتهى. 


وذكر في الجواب الصحيح أنه قد نقل عن أبي سعيد الخراز أنه قيل: بماذا عرفت ربك؟ قال: بجمعه بين الأضداد، وقرأ قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. قال شيخ الإسلام: أراد بذلك أنه مجتمع في حقه سبحانه ما يتضاد في حق غيره، فإن المخلوق لا يكون أولاً آخراً باطناً ظاهراً. انتهى.


ومن أحسن ما ذكروه في الاستلالال بالآيات الكونية ما أجاب به الأعرابي
 الأصمعي عن سؤاله له، بم عرفت ربك؟ حيث قال: البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير.
وروى أبو نعيم في الحلية عن أحمد بن يونس قال: سئل سفيان الثوري بم عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزم ونقض الهمة. 


ونقل الأصبهاني في العظمة عن أحمد بن أبي الحواري رحمه الله قال: التقى حكيمان من الحكماء، فقال أحدهما لصاحبه: بم عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزم ومنع الهم لما عزمت، فأزالني القدر وهممت فحال بيني وبين همي، فعلمت أن المستولي على قلبي غيري. قال: فبم عرفت الشكر؟ قال: بكشف البلوى لما رأيته مصروفاً عني موجوداً في غيري شكرته على ذلك، قال: فبم أحببت لقاءه؟ قال: بأصل التخيير وانتفاء التهمة، قال: فما أصل التخيير وانتفاء التهمة؟ قال: لما اختار لي تبارك وتعالى دين الأنبياء والملائكة أحسنت به الظن ونفيت عنه التهمة، وعلمت أن الذي اختار لي هذا لا يسيء إلي فأحببت لقاءه.. انتهى.


وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: أعرفه بآياته ومخلوقاته، ومن آياته: الليل والنهار والشمس والقمر، ومن مخلوقاته: السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما، والدليل قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ



 منقــــــــــــول 


الاثنين، 25 مارس 2013

قيام الليل شعار الصالحين


قيام الليل شعار الصالحين




حين يتوهم أهل الدنيا أن اللذة والنعيم في الأموال والنساء وفي البيت الجميل والفراش الوثير، فإن جنة المؤمن في محرابه، ولذته في مناجاته لربه سبحانه وتعالى حين يقوم فيترك فراشًا وثيرًا وزوجة حسناء، ويلقي عن نفسه التعب والكسل ليجيب نداء ربه وهو يدعوه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً}[المزمِّل: 1-3]، يا أيها الملتف في ثيابه المستدفئ في فراشه: قم فإنك على موعد مع ربك وخالقك، وهو ينادي على محبيه: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له». هؤلاء هم أهل الله المحبون له على الحقيقة قيام الليل.. وما أدراك ما قيام الليل؟ سنة عظيمة أضعناها، ولذة عجيبة ولكننا ما تذوقناها، وجنة للمؤمنين في هذه الحياة ولكننا ما دخلناها ولا رأيناها.

لله قوم أخلصوا في حبه *** فأحبهم واختارهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهم *** قاموا هنالك سجدا وقياما
يتلذذون بذكره في ليلهم *** ونهارهم لا يبرحون صياما

قيام الليل مدرسة تتربى فيها النفوس، وتهذب فيها الأخلاق، وتزكى فيها القلوب. قيام الليل عمل شاق وجهاد عظيم لا يستطيعه من الرجال إلا الأبطال الأطهار، ولا من النساء إلا القانتات الأبرار.. {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران: من الآية 17].

قيام الليل دأب الصالحين قبلنا، ومكفرة لسيئاتنا، وقربة لنا إلى ربنا، ومطردة للداء عن أجسادنا. لماذا الحديث عن قيام الليل؟

الحديث عن قيام الليل له أسباب كثيرة..

أولها: أنه بداية الطريق لإعادة بناء الأمة، وتأهيلها مرة أخرى لقيادة العالم وسيادته وريادته.. فبهذا الأمر ربى الله تعالى الرعيل الأول وجهزهم لتحمل مشاق الرسالة والقيام بأمر الدعوة؛ لأن العبد إذا قام الليل طهر قلبه، وإذا طهر القلب فلن تجد منه إلا السمع والطاعة.

ولذلك لن تعجب إذا علمت أن الله افترض على المسلمين قيام الليل قبل أن تنزل الأحكام وقبل أن تفرض الفرائض وقبل فرض الصلوات الخمس كما جاء في حديث حكيم بن حزام أنه جاء إلى السيدة عائشة رضي الله عنها يسأل عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:"ألست تقرأ سورة المزمل؟ قال: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً -سنة كاملة- وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة".

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن قيام الليل كان فريضة في أول الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سنة كاملة حتى نسخ الله هذا في آخر السورة. فطهارة القلب وزكاة النفس لا تكون إلا بقيام الليل. ولهذا وجدنا بعد الأمر بقيام الليل الحديث عن المهام الجسام التي يعد الله لها نبيه صلى الله عليه وسلم حين يقول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}"[المزمِّل: 5].

الثاني: تبدّل أحوالنا عن أحوال السلف، وانقلاب ليالينا إلى لهو ولعب وتفريط في الأعمار وتضييع للأوقات.. وبدلاً من أن تقضى ساعات الليل في صلاة ومناجاة لله صار الأعم الأغلب يقضيها في معاصٍ أضاعت على المسلمين دينهم.

وغاب عن الكثير منا حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟»(رواه الجماعة). وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن».

الثالث: هو قسوة في القلوب، وجفاف وجفاء في الباطن طفح على الظاهر فأورث النفوس عدم تلذذ بالقرآن والآيات، وعدم تأثر بالمواعظ والبينات، ومن كان هذا حاله فلا بد له أن يقوم الليل ليسأل ربه أن يمن عليه بقلب خاشع رقيق فما استجيبت الدعوات في وقت بمثل ما استجيبت بالأسحار.

الرابع: رغبة في إحياء سنةٍ من سنن النبي صلوات الله وسلامه عليه، تركها الناس ورغبوا عنها، وفي إحياء سننه أجرٌ عظيم وثوابٌ كبير. قيام الليل في القرآن، لقد تنوعت صور دعوة القرآن المسلمين لقيام الليل ما بين الأمر به، وبيان فضله، وامتداح أهله، وعاقبة أصحابه ترغيبًا وتحبيبا، وهذه الآيات منها المدني والمكي:

فأمر الله به في سورة المزمل كما سبق، وفي سورة الإسراء: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}[الإسراء: 78-79]. قال الحسن ومجاهد: "أي أن القيام في حق النبي نافلة؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو في حق المسلمين فريضة، فقالا: لابد من قيام الليل ولو ركعتين في السحر".

وفي سورة ق قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ . وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}[ق: 39-40]. وفي وصف أهل الإيمان امتدح الحق تبارك وتعالى المتقين المحسنين داعياً للاقتداء بهم فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذريات: 15-18]. وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً . وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}[الفرقان: 63-64]. فجعل من صفات عباده الذين شرفهم بنسبتهم إليه أنهم يبيتون ليلهم سجدًا وقيامًا.

وفي بيان ما أعد للقائمين من الجزاء والنعيم قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة: 15-17]. وكل هذه السور مكية باتفاق المفسرين. أما السور المدنية فقد تابع الله فيها التنبيه على تلك الشعيرة العظيمة كما في قوله سبحانه: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}. وقال أيضاً: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}[آل عمران: 113]. وفي سورة الإنسان قال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}[الإنسان: 25-26].

القيام في السنة:

لقد تواطأت أدلة السنة المطهرة مع أدلة الكتاب العزيز في الدعوة لهذه الفضيلة العظيمة وحث المؤمنين عليها، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله هو الحادي لأمته في اقتفاء أثره، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل»(رواه مسلم وأصحاب السنن).

ولذلك كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: "لأن أصلي في جوف الليل ركعة أحبُّ إليَّ من أن أصلي بالنهار عشر ركعات". وعندما هاجر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول ما كلمهم أن أمرهم بقيام الليل، قال: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»(متفق عليه).

وكان صلوات الله عليه وسلامه يتعهد المسلمين ويحثهم على قيام الليل، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مضى ثلثاً الليل نادى بأعلى صوته: «أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه». وطرق علياً وفاطمة رضي الله عنهما ليلاً وقال: «ألا تصليان؟»(رواه الترمذي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبيهقي وصحّحه الألباني).

وقال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «نعم الرجل عبد الله لو كان يُصلي من الليل». قال سالم بن عبد الله: "فكان ابن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً"(متفق عليه).

وقال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «يا عبد الله لا تكن كفلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل»(متفق عليه). وفي وصية جبريل للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم قال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه الليل، وعزه استغناؤه عن الناس»(حسّنه الألباني).

والنساء أيضاً:

ولم يقتصر الأمر بقيام الليل على الرجال فحسب وإنما أيضا دعيت إليه المسلمات.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء»(واه أبو داود بإسنادٍ صحيح). وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعًا كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات. وذكر أن العبد إذا فعل ذلك أو فعلته امرأته ضحك الله من فعلهما». وفي المسند: «إذا ضحك الله من عبد فلا حساب عليه».

مقدار قيام الليل:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي من الليل أحد عشر ركعة، أو ثلاث عشر ركعة، ولا يزيد على ذلك، وكان يقول: صلاة الرجل مثنى مثنى، وروت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "فصلى أربعًا، لا تسل عن طولهنَّ وحسنهنَّ، ثم صلى أربعًا لا تسل عن طولهنَّ وحسنهنَّ، ثم أوتر بثلاث".

وصدق والله القائل:

وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا *** انشق معروفٌ من الصبح ساطعُ
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به *** موقـناتٌ أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا *** استثقلت بالمشركين المضاجع

هذا هديه صلوات الله وسلامه عليه، وكل إنسان يفعل ما تيسر له قدر استطاعته، والمقصود هو وجود قيام الليل وإحياء تلك السُّنَّة فيُصلي العبد ما شاء ثم إذا تعب نام. وفي الحديث: «ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليرقد، وقال: خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملُّوا»(رواه البخاري ومسلم).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، ورغب فيه حتى قال: «عليكم بصلاة الليل ولو ركعة»". وقال رضي الله عنه: "ذكرتُ قيام الليل فقال بعضهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصفه، ثلثه، ربعه، فواق حلب ناقة، فواق حلب شاة». -والفواق: هو مقدار ما يرفع الحالب يده عن الضرع ثم يعيدها إليه، وقيل مدة الحلب-... والمقصود أنها مدة قصيرة.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين». -يعني الذين يوفون أجرهم بالقناطير-(رواه أبو داود، ابن خزيمة وهو في صحيح الجامع).

من الأسباب الميسِّرة لقيام الليل ذكر أبو حامد الغزالي أسباباً ظاهرة وأخرى باطنة ميسرة لقيام الليل:

فأما الأسباب الظاهرة فأربعة أمور:

الأول: ألا يُكثِر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام.

الثاني: ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه.

الثالث: ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تُعين على القيام.

الرابع: ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيُحرم القيام بالليل. لما سأل شاب الحسن البصري رحمه الله: فقال لا أستطيع قيام الليل؟ قال: "كبلتك خطاياك".

وأما الأسباب الباطنة فأربعة أمور:

الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا.

الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.

الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل.

الرابع: وهو أشرف البواعث: الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلّم بحرف إلا وهو مناجٍ ربه.

وأخيراً:

يا رجال الليل جِدُّوا رُبَّ داعٍ لا يُرد *** لا يقوم الليل إلا من له عزمٌ وجِد
منقــــــول

الأحد، 24 مارس 2013

النهي عن البدع



 النهي عن البدع

   د. أمين بن عبدالله الشقاوي


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
 
وبعد:
قال تعالى: ﴿ المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ الأعراف: 1 – 3.
 
وقال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ الشورى: 21.
 روى البخاري ومسلم من حديث عائشة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"1.

والبدعة هي كل ما أحدث في الشرع بغير دليل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"2.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"3.
 قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: وهو أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: "إنما الأعمال بالنيات"[4] ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء5.

وقال ابن حجر: "هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه"6.

وقال النووي: "وهذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك"7.

وقال الطرقي: "هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع"8.
وقال ابن القيم: "القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن"9.

وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم الجمعة: "إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"10.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -:
وقد ثبت عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف الصالح بعدهم التحذير من البدع، والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ المائدة: 3

والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - المحذرة من البدع، والمنفرة منها[11]. اهـ.

ومر ابن مسعود - رضي الله عنه - على أناس في المسجد ينتظرون الصلاة وهم حلق، وفي كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى ورجل يقول لهم: ، سبحوا مئة فيسبحون، كبروا مئة فيكبرون، هللوا مئة فيهللون، ويقول سبحوا مائة فيسبحون مائة فقال لهم: عدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟ ! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لم يصبه؟![12.

وقال أهل العلم: إن كل عمل يتقرب به المسلم إلى ربه - عز وجل - لابد له من شرطين:

الأول: الإخلاص لله - عز وجل -، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"13.
الثاني: المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم، وهذه المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقًا للشريعة في أمور ستة:
١- السبب: فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعيًّا فهي مردودة على صاحبها، مثالها: رجل يحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالتهجد عبادة وسنة، ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة، لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعًا، وهذا أمر مهم يتبين به ابتداع كثير ممن يظن أنه من السنة، وليس من السنة، ومن الأمثلة كذلك: بدعة المولد، فإن هذا السبب لم يشرع، ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة، ولا القرون المفضلة، وإنما أحدثته الدولة العبيدية الرافضية، لما حكمت مصر في القرن العاشر.

٢- الجنس: فلا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها، فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم تشرع في جنسها، فهي غير مقبولة، ومثال ذلك: أن يضحي رجل بفرس، فلا تصح أضحيته، لأنه خالف الشريعة في جنسها، فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام - الإبل، والبقر، والغنم.

٣- القدر: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة، فيقال له: هذه بدعة غير مقبولة، لأنها مخالفة للشرع في القدر، ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلًا خمسًا، فإن صلاته لا تصح بالاتفاق.

٤- الكيفية: فلو أن رجلًا توضأ، فبدأ بغسل رجليه، ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه، ثم وجهه، فيقال له: وضوءك باطل، لأنه مخالف للشرع في الكيفية.

٥- الزمان: فلو أن رجلًا ضحى في أول أيام ذي الحجة، فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان، وبعض الناس في شهر رمضان يتقرب إلى الله بذبح الأغنام، وهذا عمل بدعة لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية، والهدي، والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر كالذبح في عيد الأضحى فبدعة، وأما الذبح لأجل الأكل جائز.

٦- المكان: فلو أن رجلًا اعتكف في غير مسجد، فإن اعتكافه لا يصح، وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، ولو قالت امرأة: أريد أن أعتكف في مصلى البيت فلا يصح اعتكافها، لمخالفة الشرع في المكان.

ومن الأمثلة:
لو أن رجلًا أراد أن يطوف فوجد المطاف قد ضاق، ووجد ما حوله قد ضاق، فصار يطوف من وراء المسجد، فلا يصح طوافه، لأن مكان الطواف البيت، قال الله تعالى لإبراهيم الخليل: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26][14

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 [1] البخاري برقم (٢٦٩٧)، ومسلم برقم (١٧١٨(
[2] سنن النسائي برقم (١٥٧٨) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/345-346) برقم (1487) وأصله في صحيح مسلم.
[3] صحيح مسلم برقم (١٧١٨) من حديث عائشة - رضي الله عنها.
[4] صحيح البخاري برقم (١)، وصحيح مسلم برقم (١٩٠٧(.
 [5] جامع العلوم والحكم (1/176(.
 [6] فتح الباري (5/302-303(.
 [7] فتح الباري (5/302-303(
 [8] فتح الباري (5/302-303(
 [9] إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/213(
[10] برقم (٨٦٧(
 [11] رسالة للشيخ بعنوان: التحذير من البدع (ص ١١(
 [12] معجم الطبراني الكبير (9/127) رقم (8636) وروي بألفاظ كثيرة.
 [13] البخاري برقم (١)، ومسلم برقم (١٩٠٧(
[14] انظر: رسالة (الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع)، للشيخ ابن عثيمين - 
 رحمه الله - (ص ٢٠-    23(

 
د. أمين بن عبدالله الشقاوي 
منقـــــــــــــول
الألوكة 

الجمعة، 22 مارس 2013

الموقف الشرعي الصحيح من وفاة أهل البدع والضلال

الموقف الشرعي الصحيح من وفاة أهل البدع والضلال
علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
10 جمادى الأولى 1434هـ
 إن المسلم الحق كما يحزن لموت العلماء والدعاة إلى الله، يفرح بهلاك أهل البدع والضلال، خاصة إن كانوا رؤوساً ورموزاً ومنظرين، يفرح لأن بهلاكهم تُكسر أقلامُهم، وتُحسر أفكارُهم التي يلبِّسون بها على الناس، ولم يكن السلف يقتصرون على التحذير من أمثال هؤلاء وهم أحياء فقط، فإذا ماتوا ترحموا عليهم وبكوا على فراقهم، بل كانوا يبيِّنون حالهم بعد موتهم، ويُظهرون الفرح بهلاكهم، ويبشر بعضهم بعضاً بذلك.
ففي صحيح البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم عن موت أمثال هؤلاء: ((يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)) فكيف لا يفرح المسلم بموت من آذى وأفسد العباد والبلاد.
لذلك لما جاء خبر موت المريسي الضال وبشر بن الحارث في السوق قال: لولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود، والحمد لله الذي أماته،..(تاريخ بغداد: 7/66) (لسان الميزان: 2/308)
وقيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد، عليه في ذلك إثم؟ قال: ومن لا يفرح بهذا؟! (السنة للخلال: 5/121)
وقال سلمة بن شبيب: كنت عند عبد الرزاق -يعني الصنعاني-، فجاءنا موت عبد المجيد، فقال: (الحمد لله الذي أراح أُمة محمد من عبد المجيد). (سير أعلام النبلاء: 9/435) وعبد المجيد هذا هو ابن عبدالعزيز بن أبي رواد، وكان رأساً في الإرجاء.
ولما جاء نعي وهب القرشي -وكان ضالاً مضلاً- لعبد الرحمن بن مهدي قال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه. ( لسان الميزان لابن حجر: 8/402)
وقال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية 12/338) عن أحد رؤوس أهل البدع: (أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره، ثم نقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة، وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله)
هكذا كان موقف السلف رحمهم الله عندما يسمعون بموت رأسٍ من رؤوس أهل البدع والضلال، وقد يحتج بعض الناس بما نقله الحافظ ابن القيم في (مدارج السالكين: 2/345) عن موقف شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية من خصومه حيث قال: (وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ...) ومن تأمل ذلك وجد أنه لا تعارض بين الأمرين فمن سماحة شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا ينتقم لنفسه ولذلك عندما أتاه تلميذه يبشره بموت أحد خصومه وأشدهم عداوة وأذى له= نهره وأنكر عليه، فالتلميذ إنما أبدى لشيخه فرحه بموت خصمٍ من خصومه لا فرحه بموته لكونه أحد رؤوس البدع والضلال.



وبالأمس قُتل أحد علماء الضلالة (محمد سعيد رمضان البوطي)، وفرح بذلك أهلُ التوحيد والإيمان، وكيف لا يفرحون بهلاك من أفتى طاغية الشام بقتل شعبه، وشبَّه جنود نظامه النصيري بالصحابة، وقال عن أبيه الهالك حافظ الأسد مليء قلبه إيماناً، وظلَّ سبعين عاماً معادياً لأهل التوحيد، ومناصراً لأصحاب البدع والخرافات من القبوريين وغيرهم؟ إلى غير ذلك من تخبطاته وشطحاته.

فمن هذا حاله، ألا يُفرح بموته؟!

وفي مقابل هذا الفرح، -مع الأسف- حزن آخرون وأسفوا لذلك ودعوا الله أن يخلف على المسلمين مثله! –لا أجاب الله دعاءهم- فأمثال هؤلاء يُخشى على دينهم، لأنه ما من مسلم يخشى الله ويغار على هذا الدين إلا ويفرح بهلاك من ببقائه هدم الإسلام، ومن بموته ينكسر معول من معاول هذا الهدم.
نسأل الله عز وجل أن يفرحنا بهلاك كل طاغية وكل من أعانه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يثبتنا على دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .

منقـــــــــــــول

الخميس، 21 مارس 2013

حكم إمامة المرأة للرجال

حكم إمامة المرأة للرجال

 
ما حكم إمامة المرأة للرجال في صلاة الجمعة وغيرها ؟.  

 
الحمد لله
أولاً :
قد خص الله تعالى الرجال ببعض الفضائل والأحكام ، وكذلك خص النساء ببعض الفضائل والأحكام ، فلا يجوز لأحد من الرجال أن يتمنى ما خصت به النساء ، ولا يجوز لأحد من النساء أن يتمنى ما فضل به الرجال ، فإن هذا التمني اعتراض على الله تعالى في تشريعه وحكمه .
قال الله تعالى : ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) النساء/32 .
قال السعدي رحمه الله :
" ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره , من الأمور الممكنة وغير الممكنة . فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء , ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغني والكامل تمنيا مجردا , لأن هذا هو الحسد بعينه . . . ولأنه يقتضي السخط على قدر الله " انتهى .
فمما خص الله تعالى به الرجال ، أن العبادات التي تحتاج إلى قوة كالجهاد ، أو ولاية كالإمامة . . . إلخ تختص بالرجال ، ولا مدخل للنساء بها .
وقد دل على ذلك أدلة كثيرة ، منها :
1- قال الله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) النساء/34 .
قَالَ الشَّافِعِيُّ في الأم (1/191) :
" وَإِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ ذُكُورٍ فَصَلاةُ النِّسَاءِ مُجْزِئَةٌ وَصَلاةُ الرِّجَالِ وَالصِّبْيَانِ الذُّكُورِ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ ; لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الرِّجَالَ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ وَقَصَرَهُنَّ عَنْ أَنْ يَكُنَّ أَوْلِيَاءَ ، وَلا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ إمَامَ رَجُلٍ فِي صَلاةٍ بِحَالٍ أَبَدًا " انتهى .
وقال السعدي رحمه الله :
" فتفضيل الرجال على النساء , من وجوه متعددة : من كون الولايات مختصة بالرجال , والنبوة والرسالة , واختصاصهم بكثير من العبادات , كالجهاد , والأعياد , والجمع . وبما خصهم الله به , من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله " انتهى .
2- وقال تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة/228 .
قال السعدي رحمه الله :
" وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " أي : رفعة ورياسة , وزيادة حق عليها , كما قال تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) . ومنصب النبوة والقضاء , والإمامة الصغرى والكبرى , وسائر الولايات مختص بالرجال " انتهى .
3- روى البخاري (4425) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً ) .
فهذا الحديث دليل على أن الولايات العامة لا يجوز للمرأة أن تتولاها ، والإمامة من الولايات العامة .
4- روى أبو داود (576) وأحمد (5445) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ ) صححه الألباني في سنن أبي داود .
قال في عون المعبود :
" ( وَبُيُوتهنَّ خَيْر لَهُنَّ ) : أَيْ صَلاتهنَّ فِي بُيُوتهنَّ خَيْر لَهُنَّ مِنْ صَلاتهنَّ فِي الْمَسَاجِد لَوْ عَلِمْنَ ذَلِكَ , لَكِنَّهُنَّ لَمْ يَعْلَمْنَ فَيَسْأَلْنَ الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد وَيَعْتَقِدْنَ أَنَّ أَجْرهنَّ فِي الْمَسَاجِد أَكْثَر . وَوَجْه كَوْن صَلاتهنَّ فِي الْبُيُوت أَفْضَل الأَمْن مِنْ الْفِتْنَة , وَيَتَأَكَّد ذَلِكَ بَعْد وُجُود مَا أَحْدَثَ النِّسَاء مِنْ التَّبَرُّج وَالزِّينَة " انتهى .
5- روى مسلم (440) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا ) .
قال النووي :
" أَمَّا صُفُوف الرِّجَال فَهِيَ عَلَى عُمُومهَا فَخَيْرهَا أَوَّلهَا أَبَدًا وَشَرّهَا آخِرهَا أَبَدًا أَمَّا صُفُوف النِّسَاء فَالْمُرَاد بِالْحَدِيثِ صُفُوف النِّسَاء اللَّوَاتِي يُصَلِّينَ مَعَ الرِّجَال , وَأَمَّا إِذَا صَلَّيْنَ مُتَمَيِّزَات لا مَعَ الرِّجَال فَهُنَّ كَالرِّجَالِ خَيْر صُفُوفهنَّ أَوَّلهَا وَشَرّهَا آخِرهَا , وَالْمُرَاد بِشَرِّ الصُّفُوف فِي الرِّجَال النِّسَاء أَقَلّهَا ثَوَابًا وَفَضْلا وَأَبْعَدهَا مِنْ مَطْلُوب الشَّرْع , وَخَيْرهَا بِعَكْسِهِ , وَإِنَّمَا فَضَّلَ آخِر صُفُوف النِّسَاء الْحَاضِرَات مَعَ الرِّجَال لِبُعْدِهِنَّ مِنْ مُخَالَطَة الرِّجَال وَرُؤْيَتهمْ وَتَعَلُّق الْقَلْب بِهِمْ عِنْد رُؤْيَة حَرَكَاتهمْ وَسَمَاع كَلامهمْ وَنَحْو ذَلِكَ , وَذَمَّ أَوَّلَ صُفُوفهنَّ لِعَكْسِ ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى .
فإذا كانت المرأة مأمورة بالصلاة في بيتها ، والبعد عن الرجال ، وشر صفوف النساء أولها ، لأنها تكون أقرب إلى الرجال ، فكيف يليق بحكمة الشرع أن يبيح للمرأة أن تصلي إماما بالرجال ، وهو يأمرها أن تبتعد عن الرجال ؟!!
6- روى البخاري (684) ومسلم (421) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ ) .
قال الحافظ :
" وَكَأَنَّ مَنْعَ اَلنِّسَاءِ مِنْ اَلتَّسْبِيحِ لأَنَّهَا مَأْمُورَة بِخَفْضِ صَوْتِهَا فِي اَلصَّلاةِ مُطْلَقًا لِمَا يُخْشَى مِنْ اَلافْتِتَانِ " انتهى .
فإذا كانت المرأة منهية عن تنبيه الإمام بالقول إن أخطأ ، وإنما تصفق ، حتى لا ترفع صوتها بحضرة الرجال ، فكيف تصلي بهم وتخطب بهم ؟!
7- روى مسلم (658) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّه صلى خلف الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه جدته ويتيم ، فقال : ( فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا ) .
قال الحافظ :
" فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لا تَصُفُّ مَعَ الرِّجَالِ , وَأَصْلُهُ مَا يُخْشَى مِنْ الافْتِتَانِ بِهَا " انتهى .
فإذا كانت المرأة تقف منفردةً خلف الصف ، ولا تقف مع الرجال في صفهم ، فكيف تتقدمهم وتصلي بهم إماما ؟!
قال في عون المعبود :
"وَفِيهِ دَلِيل أَنَّ إِمَامَة الْمَرْأَة لِلرِّجَالِ غَيْر جَائِزَة ، لأَنَّهَا لَمَّا مُنعت عَنْ مُسَاوَاتهمْ مِنْ مَقَام الصَّفّ كَانَتْ مِنْ أَنْ تَتَقَدَّمهُمْ أَبْعَد " انتهى . بتصرف يسير .
8- عمل المسلمين على مدار أربعة عشر قرنا من الزمان ، على أن المرأة لا تتولى الصلاة بالرجال .
بدائع الصنائع (2/289 ) .
فمن خالف هذا فقد اتبع غير سبيل المؤمنين ، والله تعالى يقول : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) النساء/115 .
وهذه طائفة من أقوال العلماء :
جاء في "الموسوعة القفقهية" (6/205) :
" يُشْتَرَطُ لإِمَامَةِ الرِّجَالِ أَنْ يَكُونَ الإِمَامُ ذَكَرًا , فَلا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ , وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ " انتهى .
قال ابن حزم في "مراتب الإجماع" ( ص 27 ) :
" واتفقوا على أن المرأة لا تؤم الرجال وهم يعلمون أنها امرأة ، فإن فعلوا فصلاتهم باطلة بإجماع " انتهى .
وقال في "المحلى" (2/167) :
" وَلا يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ وَلا الرِّجَالَ , وَهَذَا مَا لا خِلَافَ فِيهِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّصَّ قَدْ جَاءَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْطَعُ صَلاةَ الرَّجُلِ إذَا فَاتَتْ أَمَامَهُ . . . وَحُكْمُهُ عليه السلام بِأَنْ تَكُونَ وَرَاءَ الرَّجُلِ وَلا بُدَّ فِي الصَّلاةِ , وَأَنَّ الإِمَامَ يَقِفُ أَمَامَ الْمَأْمُومِينَ لا بُدَّ أَوْ مَعَ الْمَأْمُومِ فِي صَفٍّ وَاحِدٍ . . . وَمِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ يَثْبُتُ بُطْلانُ إمَامَةِ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ وَلِلرِّجَالِ يَقِينًا " انتهى .
وقال النووي في المجموع (4/152) :
" وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لا تَجُوزُ صَلاةُ رَجُلٍ بَالِغٍ وَلا صَبِيٍّ خَلْفَ امْرَأَةٍ . . . وَسَوَاءٌ فِي مَنْعِ إمَامَةِ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ صَلاةُ الْفَرْضِ وَالتَّرَاوِيحِ , وَسَائِرُ النَّوَافِلِ , هَذَا مَذْهَبُنَا , وَمَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - رحمهم الله , وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ التَّابِعِينَ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد .....
ثُمَّ إذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ أَوْ الرِّجَالِ فَإِنَّمَا تَبْطُلُ صَلاةُ الرِّجَالِ , وَأَمَّا صَلاتُهَا وَصَلاةُ مَنْ وَرَاءَهَا مِنْ النِّسَاءِ فَصَحِيحَةٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ إلا إذَا صَلَّتْ بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَإِنَّ فِيهَا وَجْهَيْنِ : ( أَصَحُّهُمَا ) لا تَنْعَقِدُ صَلاتُهَا ( وَالثَّانِي ) : تَنْعَقِدُ ظُهْرًا وَتُجْزِئُهَا , وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي "الإنصاف" (2/265) :
" قَوْلُهُ ( وَلا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ )
هَذَا الْمَذْهَبُ مُطْلَقًا – يعني مذهب الإمام أحمد - قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ : هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ " انتهى .
ومذهب المالكية في هذا أشد المذاهب ، فإنهم يمنعون إمامة المرأة حتى للنساء ، ويجعلون الذكورة شرطاً في الإمامة مطلقاً . ففي "الفواكه الدواني" (1/204) :
"وَاعْلَمْ أَنَّ الإِمَامَةَ لَهَا شُرُوطُ صِحَّةٍ وَشُرُوطُ كَمَالٍ , فَشُرُوطُ صِحَّتِهَا ثَلاثَةَ عَشَرَ أَوَّلُهَا الذُّكُورَةُ الْمُحَقَّقَةُ فَلا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمَرْأَةِ وَلا الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ , وَتَبْطُلُ صَلاةُ الْمَأْمُومِ دُونَ الأُنْثَى الَّتِي صَلَّتْ إمَامًا" انتهى .
وسئل الشيخ ابن باز عن رجل صلى صلاة العصر مأموماً خلف امرأته , فأجاب :
" لا يجوز أن تؤم المرأة الرجل ولا تصح صلاته خلفها لأدلة كثيرة وعلى المذكور أن يعيد صلاته " "مجموع فتاوى ابن باز" (12/130) .
ثانياً :
أما تعويل من زعم ذلك على ما روي من أن أم ورقة قد أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في إمامة أهل بيتها . رواه أبو داود (591) .
فقالوا : إنها كانت تؤم أهل دارها بما فيهم الرجال والصبيان ، فقد أجاب العلماء عن هذا بعدة أجوبة :
1- أن الحديث ضعيف .
قال الحافظ في "التلخيص" (ص 121) : " وفي إسناده عبد الرحمن بن خلاد وفيه جهالة " انتهى .
وقال في "المنتقى شرح الموطأ" :
" هذا الحديث مما لا يجب أن يعول عليه " انتهى .
2- إن صح الحديث فالمراد : أنها كانت تؤم نساء أهل دارها .
3- أن ذلك خاص بأم ورقة ، لا يشرع ذلك لأحد غيرها .
4- أن بعض العلماء استدل به على جواز إمامة المرأة للرجل ، ولكن عند الضرورة ، ومعنى الضرورة ألا يوجد رجل يحسن قراءة الفاتحة . "حاشية ابن قاسم" (2/313) .
وانظر : "المغني" (3 /33)



منقول