حفظ اللسان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فإن من نعم الله العظيمة على الإنسان، نعمة اللسان، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴾ [البلد: 8، 9]، وهذا اللسان إن لم يستخدم في طاعة الله، كان وبالًا على صاحبه، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 24].
وقد وردت نصوص شرعية كثيرة تحث على حفظ اللسان، قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].
روى
الترمذي في سننه من حديث معاذ - رضي الله عنه -: أنه سأل النبي - صلى الله
عليه وسلم - عن عمل يقربه إلى الجنة ويباعده من النار؟ فأخبره النبي - صلى
الله عليه وسلم - برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ثم قال: ألا أخبرك بملاك
ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، قال: فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا،
فقلت: يا نبي الله! و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! و
هل يكب الناس في النار على وجوههم - أو: على مناخرهم -إلا حصائد
ألسنتهم؟!"[1].
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يهوى بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب"[2].
قوله: "ما يتبين فيها"، أي لا يدري هل هي في طاعة الله أو معصيته؟
وروى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، أضمن له الجنة"[3].
وروى الترمذي في سننه من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال:"أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"[4].
وروى الترمذي في سننه من حديث سفيان الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به؟ قال:"قل: ربي الله، ثم استقم"، قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "هذا"[5].
وقال عبد الله بن مسعود: "أنذرتكم فضول الكلام، بحسب أحدكم ما بلغ حاجته"[6].
قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: "يا أبا يحيى، حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم"[7].
وقال الأوزاعي: "كتب إلينا عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - برسالة لم يحفظها غيري وغير مكحول: أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا ينفعه"[8].
وقال عبد الله بن مسعود: "والله الذي لا إله إلا هو، ما شيء أحوج إلى طول سجن من هذا اللسان"[9].
قال
الإمام النووي - رحمه الله -: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن
جميع الكلام إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في
المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو
مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء. اهـ[10].
وشر حركات الجوارح حركة اللسان، وهي أضر ما يكون على العبد.
قال ابن القيم:
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم،
والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر الحرام، وغير ذلك، ويصعب عليه
التحفظ والاحتراز من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد
والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا، ينزل في
النار بالكلمة الواحدة أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع
عن الفواحش والظلم، ولسانه يقطع ويذبح في أعراض الأحياء والأموات، ولا
يبالي بما يقول. اهـ[11].
وإذا
أردت أن تعرف ذلك فتأمل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدَّث أنَّ رجلًا قال: "والله لا يغفر
الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان؟
فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك"[12]. أو كما قال.
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، وتكلم
رجل في حق رجل، فقال له صاحبه: أغزوت الروم؟ قال: لم أفعل. قال: سلم منك
النصارى ولم يسلم منك أخوك المسلم!
وقال بعضهم: تسعة أعشار الذنوب من اللسان.
قال بعض أهل العلم:
في اللسان آفتان عظيمتان،
إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى آفة السكوت عن الحق، أو آفة الكلام
بالباطل، وقد تكون كل منهما أعظم من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق
شيطان أخرس عاص لله، مراء، مداهن، إذا لم يخف على نفسه مثل من يرى المنكرات
أمام عينيه مع قدرته على التغيير ولا يفعل.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[13].
الآفة الثانية: التكلم
بالباطل، وهو شيطان ناطق عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم
بين هذين النوعين، وأهل الوسط هم أهل الصراط المستقيم، كفوا ألسنتهم عن
الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، فلا يرى أحدهم يتكلم
بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلًا عن أنها تضره في آخرته يوم
القيامة، عندما يأتي بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها،
ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكره الله وما
اتصل به. اهـ[14].
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] برقم (٢٦١٦)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[2] صحيح البخاري برقم (٦٤٧٧)، وصحيح مسلم برقم (٢٩٨٨).
[4] برقم (٢٤٠٦) وقال: هذا حديث حسن
[5] برقم (٢٤١٠) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[6] الصمت لابن أبي الدنيا (ص ٢٤١).
[7] إحياء علوم الدين (3/120).
[8] إحياء علوم الدين (3/112).
[9] إحياء علوم الدين (3/200).
[10] انظر: شرح صحيح مسلم (2/19).
[11] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص ١٤٠).
[14] انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص ١٤٢)