الأحد، 11 ديسمبر 2016

بَاب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ



بَاب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ
من شرح كتاب الرقاق من صحيح الإمام البخاري


قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحينباب الاقتصاد في الطاعة :- والاقتصاد هو أن يكون الإنسان وسطا بين الغلو والتفريط لأن هذا هو المطلوب من الإنسان في جميع أحواله أن يكون دائرا في وسط بين الغلو والتفريط قال الله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا .
وهكذا الطاعة ينبغي أن تقتصد فيها بل يجب عليك أن تقتصد فيها فلا تكلف نفسك ما لا تطيق .المصدر



الحديث الأول
قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه
6096 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَشْعَثَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ الدَّائِمُ قَالَ قُلْتُ فَأَيَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ قَالَتْ كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ .
شرح الحديث

قَوْلُهُ بَابُ الْقَصْدِ ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمُعْتَدِلَةِ أَيِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ [ ص: 301 ] وَسَيَأْتِي أَنَّهُمْ فَسَّرُوا السَّدَادَ بِالْقَصْدِ وَبِهِ تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ
قَوْلُهُ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ أَيِ الصَّالِحِ ذَكَرَ فِيهِ ثَمَانِيَةَ أَحَادِيثَ أَكْثَرُهَا مُكَرَّرٌ وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى بَعْضٍ وَمُحَصَّلُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْحَثُّ عَلَى مُدَاوَمَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنْ قَلَّ وَأَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ بِعَمَلِهِ بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَقِصَّةُ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي صَلَاتِهِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّرْجَمَةِ وَالثَّانِي ذُكِرَ اسْتِطْرَادًا وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالتَّرْجَمَةِ أَيْضًا وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِهَا أَيْضًا بَطَرِيقٍ خَفِيٍّ
9662 الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ وَأَشْعَثُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ يُكَنَّى أَبَا الشَّعْثَاءِ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ وَهُوَ بِهَا أَشْهَرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي " بَابِ مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ " مِنْ كِتَابِ التَّهَجُّدِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ وَالْمُرَادُ بِالصَّارِخِ الدِّيكُ . وَقَوْلُهُ هُنَا " قُلْتُ فِي أَيِّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ " وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ " فَأَيُّ حِينٍ " وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بِلَفْظِ " قُلْتُ : مَتَى كَانَ يَقُومُ " وَأَعْقَبَهُ بِرِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَشْعَثَ بِلَفْظِ " إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى " اخْتَصَرَهُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِتَمَامِهِ وَقَالَ فِيهِ : قُلْتُ : أَيَّ حِينٍ كَانَ يُصَلِّي " فَذَكَرَهُ
فائدة :- لماذا أحب العمل الدائم
• وقال ابن الجوزي: إنما أحبُّ الدائم لمعنيَيْن:
أحدهما: أنَّ التارك للعمل بعد الدُّخول فيه كالمُعرِض بعد الوصل، فهو مُتعرِّض للذَّمِّ؛ ولهذا ورَدَ الوعيد في حقِّ مَن حفظ آيةً ثم نسيها، وإنْ كان قبلَ حفظِها لايتعيَّنُ عليه.
ثانيهما: أنَّ مُداوم الخير مُلازمٌ للخدمة، فليس من لازمِ الباب في كلِّ يوم وقتًا ما؛ كمَن لازَمَ يومًا كاملاً ثم انقطع"؛ "الفتح" 1/103.
• وقال ابن حجر: وقولها: "الدائم"؛ أي: المواظبة العرفيَّة.
• وقال أيضًا: والمداومة على العبادة وإنْ قلَّت أَوْلَى من جهد النفس في كثرتها، فالقليلُ الدائم أفضلُ من الكثيرِ المنقطع غالبًا.
• وقال النووي: قولها: "الدائم" فيه الحثُّ على القصد في العبادة، وأنَّه ينبغي للإنسان ألا يحتمل من العبادة إلا ما يطيقُ الدوام عليه، ثم يحافظ عليه.
الحديث الثاني
قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه 

6097 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ .
الحديث الثالث
قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه

6098 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا .
الشرح

وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُنَجِّي أَيْ يُخَلِّصُ وَالنَّجَاةُ مِنَ الشَّيْءِ التَّخَلُّصُ مِنْهُ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا مُحَصَّلُهُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ تُنَالُ الْمَنَازِلُ فِيهَا بِالْأَعْمَالِ فَإِنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ وَأَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْخُلُودِ فِيهَا ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ قَوْلَهُ - تَعَالَى - سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَصَرَّحَ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ أَيْضًا بِالْأَعْمَالِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ وَالتَّقْدِيرُ ادْخُلُوا مَنَازِلَ الْجَنَّةِ وَقُصُورَهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَصْلَ الدُّخُولِ .


ثُمَّ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُفَسِّرًا لِلْآيَةِ وَالتَّقْدِيرُ ادْخُلُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَكُمْ وَتَفَضُّلِهِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ اقْتِسَامَ مَنَازِلِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ وَكَذَا أَصْلُ دُخُولِ الْجَنَّةِ هُوَ بِرَحْمَتِهِ حَيْثُ أَلْهَمَ الْعَامِلِينَ مَا نَالُوا بِهِ ذَلِكَ وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ مُجَازَاتِهِ لِعِبَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً بِإِيجَادِهِمْ ثُمَّ بِرِزْقِهِمْ ثُمَّ بِتَعْلِيمِهِمْ وَقَالَ عِيَاضٌ طَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّ الْحَدِيثَ فَسَّرَ مَا أُجْمِلَ فِي الْآيَةِ فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ الْأَخِيرِ وَأَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَوْفِيقُهُ لِلْعَمَلِ وَهِدَايَتُهُ لِلطَّاعَةِ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : يَتَحَصَّلُ عَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ الْأَوَّلُ أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْعَمَلِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَوْلَا رَحْمَةُ اللَّهِ السَّابِقَةُ مَا حَصَلَ الْإِيمَانُ وَلَا الطَّاعَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا النَّجَاةُ الثَّانِي أَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ [ ص: 302 ] فَعَمَلُهُ مُسْتَحَقٌّ لِمَوْلَاهُ فَمَهْمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ فَهُوَ مِنْ فَضْلِهِ الثَّالِثُ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ نَفْسَ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَاقْتِسَامَ الدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ الرَّابِعُ أَنَّ أَعْمَالَ الطَّاعَاتِ كَانَتْ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ وَالثَّوَابُ لَا يَنْفَدُ فَالْإِنْعَامُ الَّذِي لَا يَنْفَدُ فِي جَزَاءِ مَا يَنْفَدُ بِالْفَضْلِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ .



وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَيْسَ لِلسَّبَبِيَّةِ بَلْ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ أَيْ أُورِثْتُمُوهَا مُلَابَسَةً أَوْ مُصَاحَبَةً أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ نَحْوَ أُعْطِيتُ الشَّاةَ بِالدِّرْهَمِ وَبِهَذَا الْأَخِيرِ جَزَمَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ هِشَامٍ فِي " الْمُغْنِي " فَسَبَقَ إِلَيْهِ فَقَالَ تَرِدُ الْبَاءُ لِلْمُقَابَلَةِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَعْوَاضِ كَاشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ وَمِنْهُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَإِنَّمَا لَمْ تُقَدَّرْ هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَمَا قَالَ الْجَمِيعُ فِي لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ بِعِوَضٍ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا بِخِلَافِ الْمُسَبَّبِ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ قَالَ وَعَلَى ذَلِكَ يَنْتَفِي التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ . قُلْتُ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ فِي كِتَابِ " مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ " الْبَاءُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلدُّخُولِ غَيْرُ الْبَاءِ الْمَاضِيَةِ فَالْأُولَى السَّبَبِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ سَبَبُ الدُّخُولِ الْمُقْتَضِيَةُ لَهُ كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا وَالثَّانِيَةُ بِالْمُعَاوَضَةِ نَحْوَ اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بِكَذَا فَأَخْبَرَ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ أَحَدٍ وَأَنَّهُ لَوْلَا رَحْمَةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ لَمَا أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِهِ وَلَوْ تَنَاهَى لَا يُوجِبُ بِمُجَرَّدِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَلَا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لَهَا ; لِأَنَّهُ وَلَوْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا يُقَاوِمُ نِعْمَةَ اللَّهِ بَلْ جَمِيعُ الْعَمَلِ لَا يُوَازِي نِعْمَةً وَاحِدَةً فَتَبْقَى سَائِرُ نِعَمِهِ مُقْتَضِيَةً لِشُكْرِهَا وَهُوَ لَمْ يُوَفِّهَا حَقَّ شُكْرِهَا فَلَوْ عَذَّبَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَعَذَّبَهُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ وَإِذَا رَحِمَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ .
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ إِثَابَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - مَنْ أَطَاعَهُ بِفَضْلٍ مِنْهُ وَكَذَلِكَ انْتِقَامُهُ مِمَّنْ عَصَاهُ بِعَدْلٍ مِنْهُ وَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِالسَّمْعِ وَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الطَّائِعَ وَيُنَعِّمَ الْعَاصِيَ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ لَا خُلْفَ فِيهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُقَوِّي مَقَالَتَهُمْ وَيَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ أَثْبَتُوا بِعُقولِهِمْ أَعْوَاضَ الْأَعْمَالِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خَبْطٌ كَثِيرٌ وَتَفْصِيلٌ طَوِيلٌ .


قَوْلُهُ قَالُوا : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ) ؟ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ " فَقَالَ رَجُلٌ " وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْقَائِلِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : إِذَا كَانَ كُلُّ النَّاسِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَوَجْهُ تَخْصِيصِ رَسُولِ [ ص: 303 ] اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالذِّكْرِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْطُوعًا لَهُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَغَيْرُهُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى قُلْتُ وَسَبَقَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى الرَّافِعِيُّ فِي أَمَالِيهِ فَقَالَ لَمَّا كَانَ أَجْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّاعَةِ أَعْظَمَ وَعَمَلُهُ فِي الْعِبَادَةِ أَقَوْمَ قِيلَ لَهُ " وَلَا أَنْتَ " أَيْ لَا يُنَجِّيكَ عَمَلُكَ مَعَ عِظَمِ قَدْرِهِ ، فَقَالَ " لَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ " وَقَدْ وَرَدَ جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ بِعَيْنِهِ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ وَلَا أَنَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى .
مَعْنَى " يَتَغَمَّدَنِي " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمُرَادُ بِالتَّغَمُّدِ السَّتْرُ وَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا مَأْخُوذًا مِنْ غَمْدِ السَّيْفِ لِأَنَّكَ إِذَا أَغْمَدْتَ السَّيْفَ فَقَدْ أَلْبَسْتَهُ الْغِمْدَ وَسَتَرْتَهُ بِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ : فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى عَمَلِهِ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ وَنَيْلِ الدَّرَجَاتِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَمِلَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ بِعِصْمَةِ اللَّهِ فَكُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ .
قَوْلُهُ ( سَدِّدُوا ) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ " وَلَكِنْ سَدِّدُوا " وَمَعْنَاهُ اقْصِدُوا السَّدَادَ أَيِ الصَّوَابَ وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنَ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ نَفْيُ فَائِدَةِ الْعَمَلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ بَلْ لَهُ فَائِدَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُدْخِلُ الْعَامِلَ الْجَنَّةَ فَاعْمَلُوا وَاقْصِدُوا بِعَمَلِكُمُ الصَّوَابَ أَيِ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِهِ لِيَقْبَلَ عَمَلَكُمْ فَيُنْزِلَ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَةَ
قَوْلُهُ ( وَقَارِبُوا ) أَيْ لَا تُفْرِطُوا فَتُجْهِدُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْعِبَادَةِ لِئَلَّا يُفْضِيَ بِكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْمَلَالِ فَتَتْرُكُوا الْعَمَلَ فَتُفَرِّطُوا .
قَوْلُهُ وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْئًا مِنَ الدُّلْجَةِ فِي وَالْمُرَادُ بِالْغُدُوِّ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَبِالرَّوَاحِ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ النَّهَارِ وَالدُّلْجَةُ سَيْرُ اللَّيْلِ يُقَالُ : سَارَ دُلْجَةً مِنَ اللَّيْلِ أَيْ سَاعَةً فَلِذَلِكَ قَالَ شَيْئًا مِنَ الدُّلْجَةِ لِعُسْرِ سَيْرِ جَمِيعِ اللَّيْلِ فَكَأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى صِيَامِ جَمِيعِ النَّهَارِ وَقِيَامِ بَعْضِ اللَّيْلِ وَإِلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ أَوْجُهِ الْعِبَادَةِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ فِي الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّرْجَمَةِ وَعَبَّرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى السَّيْرِ لِأَنَّ الْعَابِدَ كَالسَّائِرِ إِلَى مَحَلِّ إِقَامَتِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَشَيْئًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيِ افْعَلُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي " بَابِ الدِّينُ يُسْرٌ "

قَوْلُهُ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ ) أَيِ الْزَمُوا الطَّرِيقَ الْوَسَطَ الْمُعْتَدِلَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ " كَانَتْ خُطْبَتُهُ قَصْدًا " أَيْ لَا طَوِيلَةً وَلَا قَصِيرَةً وَاللَّفْظُ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ .



المصدر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق