بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الرقاق من صحيح البخاري
باب ما جاء في الصحة والفراغ وأن لا عيش إلا عيش الآخرة
[ 6049 ] حدثنا المكي بن إبراهيم أخبرنا عبد الله
بن سعيد هو بن أبي هند عن أبيه عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى
الله عليه وسلم نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ قال عباس العنبري حدثنا
صفوان بن عيسى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه سمعت بن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم مثله
[ 6050 ] حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة
عن معاوية بن قرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فأصلح الأنصار والمهاجره
[ 6051 ] حدثني أحمد بن المقدام حدثنا الفضيل بن
سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد الساعدي كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب وبصر بنا فقال
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجره
تابعه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
قوله بسم الله الرحمن الرحيم كتاب
الرقاق الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة كذا لأبي ذر عن السرخسي وسقط عنده عن
المستملي والكشميهني " الصحة والفراغ " ومثله للنسفي ، وكذا للإسماعيلي لكن
قال " وأن لا عيش " كذا لأبي الوقت لكن قال " باب لا عيش " وفي
رواية كريمة عن الكشميهني " ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة
" قال مغلطاي : عبر جماعة من العلماء في كتبهم بالرقائق قلت منهم ابن المبارك
والنسائي في " الكبرى " وروايته كذلك في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن
البخاري والمعنى واحد والرقاق والرقائق جمع رقيقة وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل
منها ما يحدث في القلب رقة قال أهل اللغة الرقة الرحمة وضد الغلظ ويقال للكثير الحياء
رق وجهه استحياء وقال الراغب : متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة كثوب رقيق وثوب
صفيق ومتى كانت في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسي القلب وقال الجوهري : وترقيق
الكلام تحسينه .
[ 6049 ] قالَ الإمام البُخاريُّ
ــ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ــ فِي "صحيحه" . حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ:
الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)).
قالَ الحافظ ابْن حجرٍ العسقلانيُّ ــ رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَىٰ ــ في كتابه "فتح الباري": قوله: « نعمتان » تثنية نعمة،
وهي الحالة الحسنة، وقيلَ: هيَ المنفعة المفعولة علىٰ جهة الإحسان للغير، و« الغبن
» بالسُّكون وبالتَّحريك.
وقالَ الجوهريُّ: هوَ فِي البيع بالسُّكون،
وفي الرَّأي بالتَّحريك، وعلىٰ هـٰذا فيصحُّ كلٌّ منهما فِي هـٰذا الخبر، فإنَّ مَنْ
لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبنَ لكونه باعهما ببخس؛ ولم يحمد رأيه فِي ذٰلك.
قالَ ابن بطَّال: معنى الحديث: أنَّ المرء
لا يكونُ فارغًا حتَّىٰ يكونُ مكفيًّا صحيح البدن، فمَنْ حصلَ لهُ ذٰلك فليحرص علىٰ
أنْ لا يغبن بأنْ يترك شكر الله علىٰ ما أنعم به عليه، ومِنْ شُكره: اِمْتثال أوامره،
واجْتناب نواهيه، فمَنْ فرطَ فِي ذٰلك فهوَ المغبون.
وأشارَ بقوله: « كثير مِنَ النَّاس » إلىٰ
أنَّ الَّذي يوفِّق لذٰلك قليل.
وقالَ ابن الجوزيُّ: قد يكون الإنسان صحيحًا
ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اِجتمعا
فغلب عليه الكسل عَنِ الطَّاعة فهوَ المغبون، وتمامُ ذٰلكَ أنَّ الدُّنيا مزرعة الآخرة،
وفيها التِّجارة الَّتي يظهر ربحها فِي الآخرة،
° فمَنْ اِسْتعمل فراغه وصحَّته فِي طاعة
الله فهوَ المغبوطُ.
° ومَنْ اِسْتعملهما فِي معصية الله فهوَ
المغبونُ.
لأنَّ الفراغ يعقبه الشُّغل، والصِّحة يعقبها
السُّقم، ولو لم يكن إلَّا الهرم، كما قيلَ:
يَسُرّ الْفَتَى طُول السَّلامَة وَالبَقَا
°°° فكيف تَرَىٰ طُول السَّلامة يَفْعَل
يَرُدّ الْفَتَى بَعْد اِعْتدَال وَصِحَّة
°°° يَنُوء إِذَا رَامَ الْقِيَام وَيُحْمَل
وقالَ الطّيّبيُّ: ضربَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُكلَّف مثلاً بالتَّاجر الَّذي لهُ رأس مال، فهو يبتغي
الرِّبح معَ سلامة رأس المال، فطريقه فِي ذٰلك أنْ يتحرَّىٰ فيمَنْ يُعامله ويلزم الصِّدق
والحذق لئلَّا يغبن، فالصِّحة والفراغ رأس المال، وينبغي لهُ أنْ يُعامل الله بالإيمان،
ومجاهدة النَّفس وعدوِّ الدِّين، ليربح خيري الدُّنيا والآخرة، وقريب منه قول الله
تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الآيات. وعليه أنْ يجتنب مُطاوعة النَّفس، ومُعاملة الشَّيطان
لئلَّا يضيع رأس ماله مع الرِّبح.
وقوله في الحديث: « مغبون فيهما كثير مِنَ
النَّاس »، كقوله تعالىٰ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. فالكثير فِي الحديث
فِي مقابلة القليل فِي الآية.
وقالَ القاضي وأبو بكر بن العربي: اِختُلف
فِي أوَّل نعمة اللهِ على العبد، فقيلَ: الإيمان. وقيلَ: الحياة. وقيلَ: الصِّحة.
والأوَّل أولىٰ، فإنَّهُ نعمةٌ مُطلقةٌ،
وأمَّا الحياة والصِّحة فإنَّهما نعمةٌ دنيويَّةٌ، ولا تكون نعمةً حقيقةً إلَّا إذا
صاحبت الإيمان، وحينئذٍ يغبن فيها كثير مِنَ النَّاس، أي: يذهب ربحهم أو ينقص، فمَنْ
اِسْترسلَ معَ نفسه الأمارَّة بالسُّوء؛ الخالدة إلى الرَّاحة، فتركَ المحافظة على
الحُدود، والمواظبة على الطَّاعة، فقد غبن، وكذٰلك إذا كانَ فارغًا فإنَّ المشغول قد
يكونُ لهُ معذرة بخلاف الفارغ فإنَّهُ يرتفع عنه المعذرة وتقوم عليه الحجَّة.اهـ.
([ « فتح الباري شرح "صحيح البُخاريِّ"
» / (11 / 230، 231) / "كِتَاب الرِّقَاقِ"
(81) /
"بَاب ما جاءَ فِي الرِّقاق وأن لاَ
عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَةِ" ]).
[ 6050 ] حدثنا محمد بن بشار
حدثنا غندر حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فأصلح الأنصار والمهاجرة .
[ 6051 ] " اللهم لا عيش إلا عيش الآخره
فاغفر للأنصار والمهاجرة
" .
يعنى العيشة الهنية الراضية الباقية هو
عيش الآخرة، أما الدنيا فإنه مهما طاب عيشها فمآلها للفناء، وإذا لم يصحبها عمل صالح
فإنها خسارة.
ولهذا ذكر في ضمن الأحاديث هذه" أنه
يؤتى بأنعم أهل الدنيا في الدنيا" يعني أشدهم نعيماً في بدنه وثيابه وأهله ومسكنه
ومركوبه وغير ذلك، " فيصبغ في النار صبغة" يعني يغمس فيها غمسة واحدة ، ويقال
له " يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا والله يا رب
ما رأيت" لأنه ينسى كل هذا النعيم، هذا وهو شيء يسير، فكيف بمن يكون مخلداً فيها
والعياذ بالله أبد الآبدين.
وذكر أيضاً حديث جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم مرَّ في السوق بجدي أسك. والجدي من صغار الماعز، وهو أسك : أي مقطوع الأذنين،
فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام ورفعه وقال: " هل أحد منكم يريده بدرهم؟ قالوا
يا رسول الله ، ما نريده بشي. قال: "هل أحد منكم يود أن يكون له؟ قالوا: لا. قال
: إن الدنيا أهون عند الله تعالى من هذا الجدي".
فهذا جدي ميت لا يساوي شيئاً، ومع ذلك فالدنيا
أهون وأحقر عند الله تعالى من هذا الجدي الأسك الميت، فهي ليست بشيء عند الله ، ولكن
من عمل فيها عملاً صالحاً؛ صارت مزرعة له في الأخرة، ونال فيها السعادتين: سعادة الدنيا
وسعادة الآخرة.
أما من غفل وتغافل وتهاون ومضت الأيام عليه
وهو لم يعمل؛ فإنه يخسر الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: (ِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر: 15)، وقال تعالى : (وَالْعَصْرِ) (1) (إِنَّ الْإنْسَانَ
لَفِي خُسْرٍ) (2) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:3:1).
وكل بني آدم خاسر إلا هؤلاء الذين جمعوا
هذه الأوصاف الأربعة: آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. جعلنا
الله وإياكم منهم.
شرح رياض الصالحين للشيخ بن
عثيمين رحمه الله .
" اللهم لا عيش إلا عيش الآخره
فاغفر للأنصار والمهاجرة "
في هذا الحديث فوائــــــد :
1- تعلق النبي عليه الصلاة والسلام بالآخرة
2- اثبات الآخـــرة
3- أن العيش الحقيقي عيش الآخرة
4-أن العيش بالدنيا زائل حقير
5- تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام لربه
6- أن العيش الحقيقي هو الباقي لا الزائل
7- حقارة الدنيا وسرعة زوالها
8- ينبغي على القائد تعليق الناس بالآخرة
9- فضيلة اليقين الذي يؤدي إلى الإيمان
بالآخرة
10- التعلق بالآخرة يريح القلب والبدن فلا
يهتم بالدنيا
11- فضيلة محبة الله ولقاءه
12-الإيمان بالآخرة حقيقة يقود للطاعات
والمسارعة إليها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق