أقسام مخالطة الناس
نقلا من كتاب
التفسير القيم
للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى
قال رحمه الله :
وأما فضول المخالطة : فهي الداء العضال الجالب لكل شر . وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة ، وكم زرعت من عداوة ، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة ، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام : متى خلط أحد الأقسام بالآخر ، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر .
أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة ، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام ، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر ، وهم العلماء بأمره ، ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه ، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كل الربح .
القسم الثاني : من مخالطته كالدواء ، يحتاج إليه عند المرض . فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته ، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش ، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والإستشارة والعلاج للأدواء ونحوها ، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم
الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه .
فمنهم من مخالطته كالداء العضال ، والمرض المزمن ، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا . ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما . فهذا إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت ، فهي مرض الموت المخوف .
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك ، فإذا فارقك سكن الألم .
ومنهم من مخاطته حمى الروح . وهو الثقيل البغيض العقل ، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها ، بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين ، مع إعجابه بكلامه وفرحه به . فهو يحدث من فيه كلما تحدث ، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس ، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض . ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر .
ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله ، وقد ضعف القوى عن حمله ، فالتفت إلي وقال : مجالسة الثقيل حمى الربع . ثم قال : لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى ، فصارت لها عادة . أو كما قال .
وبالجملة : فمخالطة كل مخالف حمى الروح ، فعرضية ولازمة . ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب . وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف ، حتى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا .
القسم الرابع : من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم . فإن اتفق لآكله الترياق ، وإلا فأحسن الله فيه العزاء . وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله . وهم أهل البدع والضلالة ، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الداعون إلى خلافها ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، فيجعلون البدعة سنة ، والسنة بدعة ، والمعرف منكرا ، والمنكر معروفا .
إن جردت التوحيد بينهم قالوا : تنقصت جناب الأولياء الصالحين .
وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أهدرت اللأئمة المتبوعين .
وإن وصفت الله بما وصف به نفسه ، وبما مصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا تقصير قالوا : أنت من المشبهين .
وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت بما نهى الله عنه ورسوله من المنكر ، قالوا أنت من المفتنين .
وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا : أنت من أهل البدع المضلين .
وإن انقطعت إلى الله تعالى ، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا ، قالوا أنت من الملبسين .
وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم ، فأنت من الخاسرين ، وعندهم من المنافقين .
فالحزم كل الحزم : التماس مرضات الله تعالى ورسوله بإغضابهم وأن
لا تشتغل بأعتابهم ، ولا باستعتابهم ، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم ، فإنه عين كمالك كما قيل :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
()()()()
فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقال آخر :
وقد زادني حبا لنفسي أنني
()()()()
بغيض إلى كل امرئ غير طائل
فمن أيقظ بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم ، وهي فضول النظر ، والكلام ، والطعام ، والمخالطة . واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان ، فقد أخذ بنصيبه من التوفيق ، وسد على نفسه أبواب جهنم وفتح عليها أبواب الرحمة ، وانغمر ظاهره وباطنه .
ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء ، فعند الممات يحمد القوم التقى ،
وفي الصباح يحمد القوم السرى ، والله الموفق ، لا رب غيره ، ولا إله سواه . إهــ
( التفسير القيم ص:28ـ31)
طبع دار الكتب العلمية
منقـــول
نقلا من كتاب
التفسير القيم
للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى
قال رحمه الله :
وأما فضول المخالطة : فهي الداء العضال الجالب لكل شر . وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة ، وكم زرعت من عداوة ، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة ، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام : متى خلط أحد الأقسام بالآخر ، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر .
أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة ، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام ، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر ، وهم العلماء بأمره ، ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه ، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كل الربح .
القسم الثاني : من مخالطته كالدواء ، يحتاج إليه عند المرض . فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته ، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش ، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والإستشارة والعلاج للأدواء ونحوها ، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم
الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه .
فمنهم من مخالطته كالداء العضال ، والمرض المزمن ، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا . ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما . فهذا إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت ، فهي مرض الموت المخوف .
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك ، فإذا فارقك سكن الألم .
ومنهم من مخاطته حمى الروح . وهو الثقيل البغيض العقل ، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها ، بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين ، مع إعجابه بكلامه وفرحه به . فهو يحدث من فيه كلما تحدث ، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس ، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض . ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر .
ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله ، وقد ضعف القوى عن حمله ، فالتفت إلي وقال : مجالسة الثقيل حمى الربع . ثم قال : لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى ، فصارت لها عادة . أو كما قال .
وبالجملة : فمخالطة كل مخالف حمى الروح ، فعرضية ولازمة . ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب . وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف ، حتى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا .
القسم الرابع : من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم . فإن اتفق لآكله الترياق ، وإلا فأحسن الله فيه العزاء . وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله . وهم أهل البدع والضلالة ، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الداعون إلى خلافها ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، فيجعلون البدعة سنة ، والسنة بدعة ، والمعرف منكرا ، والمنكر معروفا .
إن جردت التوحيد بينهم قالوا : تنقصت جناب الأولياء الصالحين .
وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أهدرت اللأئمة المتبوعين .
وإن وصفت الله بما وصف به نفسه ، وبما مصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا تقصير قالوا : أنت من المشبهين .
وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت بما نهى الله عنه ورسوله من المنكر ، قالوا أنت من المفتنين .
وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا : أنت من أهل البدع المضلين .
وإن انقطعت إلى الله تعالى ، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا ، قالوا أنت من الملبسين .
وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم ، فأنت من الخاسرين ، وعندهم من المنافقين .
فالحزم كل الحزم : التماس مرضات الله تعالى ورسوله بإغضابهم وأن
لا تشتغل بأعتابهم ، ولا باستعتابهم ، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم ، فإنه عين كمالك كما قيل :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
()()()()
فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقال آخر :
وقد زادني حبا لنفسي أنني
()()()()
بغيض إلى كل امرئ غير طائل
فمن أيقظ بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم ، وهي فضول النظر ، والكلام ، والطعام ، والمخالطة . واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان ، فقد أخذ بنصيبه من التوفيق ، وسد على نفسه أبواب جهنم وفتح عليها أبواب الرحمة ، وانغمر ظاهره وباطنه .
ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء ، فعند الممات يحمد القوم التقى ،
وفي الصباح يحمد القوم السرى ، والله الموفق ، لا رب غيره ، ولا إله سواه . إهــ
( التفسير القيم ص:28ـ31)
طبع دار الكتب العلمية
منقـــول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق