الأحد، 16 سبتمبر 2012

الحسد

     الحسد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
 
وبعد:
فمن الصفات المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها: الحسد، وقد أمر الله تعالى بالاستعاذة منه، فقال سبحانه: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1 - 5].
 
قال الراغب: الحسد تمني زوال نعمة من مستحق لها، وربما كان مع ذلك سعي في إزالتها[1]، والحسد من صفات أشر عباد الله اليهود، كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].
 
وقال تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 54].
 
روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا"[2].
 
وروى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: أن جبريل -عليه السلام- أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا محمد اشتكيت؟ قال: نعم. قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك"[3].
 
قال ابن رجب: الحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل، ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام: فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ويسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه، وهو شرهما وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه، وهو ذنب إبليس، حيث حسد آدم -عليه السلام- لما رآه قد فاق على الملائكة بأن خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها، ومنهم من يحدث نفسه بذلك اختيارًا، ويعيده في نفسه مستروحًا تمني زوال نعمة أخيه، فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية، وقسم آخر إذا حسد لم يتمن زوال نعمة المحسود بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، ويتمنى أن يكون مثله، فإن كانت الفضائل دنيوية، فلا خير في ذلك، كما قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79]. وإن كانت فضائل دينية فهو حسن، وقد تمنى النبي -صلى الله عليه وسلم- الشهادة في سبيل الله -عز وجل-، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل و آناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل و آناء النهار"[4]، وهذا هو الغبطة، وسماه حسدًا من باب الاستعارة، وقسم آخر إذا وجد من نفسه الحسد سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه، والدعاء، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يُبْدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرًا منه، وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه. اهـ[5].
 
قال ابن سيرين: "ما حسدت أحدًا على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار".
 
وقال أبو الدرداء: "ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده"، وقال ابن عباس: "إني لأمر على الآية من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم"، وقال معاوية -رضي الله عنه-: "كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها".
 
ولذلك قيل:

كل العداوات قد تُرجى إماتتها
إلا عداوة من عاداك عن حسد
 
وقال آخر:

أيا حاسدًا لي على نعمتي
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه
لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربّي بأن زادني
وسدَّ عليك وجوه الطلب
 
•   •   •
روى الترمذي في سننه من حديث الزبير بن العوام -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم"[6].
 
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، وجاء في القصة أن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- تبعه في منزله، ثم قال له: يا عبد الله إني أويت إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لانطيق"[7].
 
قال ابن القيم -رحمه الله-: ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعدة أمور:
1- التعوذ بالله من شره، والتحصن واللجأ إليه.
 
2- تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 120].
 
3- الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا.
 
4- التوكل على الله، فمن توكل على الله فهو حسبه.
 
5- الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه في خواطر نفسه.
 
6- تجريد التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه.
 
7- الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا في دفع العين وشر الحاسد.
 
8- وهو من أصعب الأسباب، إطفاء نار الحاسد بالإحسان إليه.
 
9- تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، الذي أزِمَّة الأمور بيده سبحانه[8].
 
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

[1] مفردات ألفاظ القرآن (ص ١١٦).


[2] البخاري برقم (٦٠٦٥)، ومسلم برقم (٢٥٥٩).


[3] برقم (٢١٨٦).


[4] صحيح البخاري برقم (٥٠٢٥)، وصحيح مسلم برقم (٨١٥).


[5] جامع العلوم والحكم، (ص ٢٦٠-263).


[6] برقم (٢٥١٠)، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (٣٣٦١).


[7] (20/125) برقم (١٢٦٩٧) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.


[8] التفسير القيم لابن القيم (ص ٥٨٥)
 
موقع الدكتور / أمين بن عبد الله الشقاوي

هناك تعليق واحد:

  1. علينا بالإيمان واليقين بأنه لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا
    وأن نقي أنفسنا من الحسد بالمحافظة على الصلاة وتلاوة القرآن وبأذكار الصباح و المساء
    المصدر :
    http://www.mo22.com/?p=6102

    ردحذف