من فقه وأداب الدعاء
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه،
ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له،
ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله، صلى الله عليه؛ وعلى آله؛ وصحبه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا .
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله،
وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة،
وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من آداب وفقه الدعاء:
(1) استحباب الوضوء:
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي
مُوسَى: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ
رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي
عَامِرٍ»-وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ- ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ» (البخاري [6383]، ومسلم
[2498]، وابن حبان في صحيحه [7198])، وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ
رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
"ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي". قَالَ: «إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ،
وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَاكَ فَهُوَ خَيْرٌ»، فَقَالَ: "ادْعُهُ"،
فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ،
وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ
إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي
تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتَقْضِي لِي، اللَّهُمَّ
شَفِّعْهُ فِيَّ» (صحيح: أخرجه الترمذي [3578]، وابن ماجة [1385]، والحاكم في المستدرك [1180]، وغيرهم، انظر صحيح الجامع
للألباني [1279]).
(2) استحباب استقبال القبلة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ
الطُّفَيْلُ بن عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ، وَأَبَتْ،
فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا"، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّاسُ: "هَلَكَتْ
دَوْسٌ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِ
دَوْسًا، وَائْتِ بِهِمْ» (البخاري [6397]، ومسلم [2524]، وأحمد في المسند
[7313])، والدليل على ذلك أيضًا ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُ
مِئَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه
وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ"، الحديث، وعن عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ
الْمَازِنِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم، يَقُولُ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ يَدْعُو اللَّهَ،
وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ" (البخاري
[1027، 1028]، ومسلم [894]، وأحمد في المسند [16439]، وأبو داود [1162]).
(3) استحباب رفع اليدين وصفته:
عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ،
يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا
خَائِبَتَيْنِ» (صحيح: أخرجه أحمد في المسند [23765] تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده
صحيح، وأبو داود [1488]، والترمذي [3556]، وابن ماجة [3865]، والحاكم في المستدرك
[1830]، وصححه الألباني في صحيح الجامع [1757]، والترغيب [2/272])، والدليل أيضًا
من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية نذكر بعضًا منها على سبيل المثال: جاء
معنا في آداب استحباب "الطهارة" رفع صلى الله عليه وسلم يده في دعاءه
لعبيد بن عامر، وأيضًا في أدب "استقبال القبلة" رفع يديه صلى الله عليه وسلم
في دعاءه لدوس، ودعاءه يوم بدر، وأخرج مسلم في صحيحه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلاَ
قَوْلَ اللهِ عز وجل فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ
النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، وَقَالَ عِيْسَى عليه السلام: {إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ: أُمَّتِي
أُمَّتِي» الحديث (مسلم [202]، وابن حبان في صحيحه [7235])، وسيأتي معنا بتمامه في
"الفصل السابع"، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يوم الجمعة على
المنبر للاستسقاء وفيه عن أنس رضي الله عنه: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا،
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» الحديث (البخاري[1014]، ومسلم [897])، أما الذي ورد عن أنس
رضي الله عنه في الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لاَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِن دُعَائِهِ، إِلاَّ فِي الاِسْتِسْقَاءِ،
فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ.
يقول أحد علماؤنا حفظه الله:
"فإما أن يُحمل على نفي صفة معينة من صفات الرفع، أي لا يبالغ في رفع يديه
إلا في الاستسقاء حتى يُرى بياض إبطيه، وإما أن يحمل على أن أنسًا قال بالذي قد
علم، وغيره علم ما لم يعلم ونقل ما لم ينقل، والثاني أظهر لأنه قد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم رفع يديه في مواطن أُخر قدمنا بعضها" والله أعلم.
وأقول سائلاً الله التوفيق: قول
الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يُحمل على أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه على المنبر يوم الجمعة إلا في الاستسقاء
وسيأتي معنا إنما كان يشير بالسبابة، وهذا سياق كلامه رضي الله عنه وأيضًا لعلم
الصحابة رضوان الله عليهم من رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليديه في الدعاء في
كثير من المواطن التي يُستبعد أن لا يكون يعلمها أنس رضي الله عنه الذي خدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين.
ولذا أورد الإمام البغوي في (شرح
السنة) حديث أنس الذي معنا في باب "كراهية رفع اليدين في الخطبة" والله
أعلم.
النهي عن رفع اليدين بالدعاء على
المنبر في غير الاستسقاء:
عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ، قَالَ: رَأَى عُمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ،
وَهُوَ يَدْعُو، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَقَالَ عُمَارَةُ: "قَبَّحَ اللهُ
هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ". قَالَ زَائِدَةُ: قَالَ حُصَيْنٌ: حَدَّثَنِي
عُمَارَةُ، قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، مَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ، يَعْنِى السَّبَّابَةَ
الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ" (مسلم [874]، وأحمد[17263]، وأبو داود[1104]،
والترمذي، والنسائي[1412]، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان)، وقال الإمام البغوي
رحمه الله في شرح السنة: "رفع اليدين في الخطبة غير مشروع، وفي الاستسقاء
سنة، فإن استسقى في خطبة الجمعة يرفع يديه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم"
(شرح السنة [4/257]، باب كراهة رفع اليدين
في الخطبة).
حكم رفع الحضور لخطبة الجمعة لأيديهم
في تأمينهم على دعاء الخطيب على المنبر يوم الجمعة:
وى ابن أبي شيبة رحمه الله في مصنفه عن
معمر رحمه الله عن الزهري رحمه الله قال: "رفعُ الأيدي يوم الجمعة محدث"
(مصنف أبي شيبة : [5692] وقال: وهذ إسناد صحيح إلى الزهري)، ورُوِىَّ بإسناد صحيح
عن مسروق رحمه الله قال: "رفع الإمام يوم الجمعة يداه على المنبر، فرفع الناس
أيديهم"، فقال مسروق: "قطع الله أيديهم" (مصنف أبي شيبة [5495])، وقال أبو شامة رحمه الله في الباعث
على إنكار البدع والحوادث في بدع الخطبة: "وأما رفع أيديهم عند الدعاء، فبدعة
قديمة" (الباعث على إنكار البدع والحوادث [ص 111])، وقال السيوطي رحمه الله
في الأمر بالاتباع والنهي عن الإبتداع في بدع الخطبة: "ورفع أيديهم عند
الدعاء، فبدعة قبيحة" اهـ (الأمر بالاتباع [247]).
صفة رفع اليدين:
وعن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «سَلُوْا اللهَ بِبُطُوْنِ أَكُفِّكُمْ، وَلاَ تَسْأَلُوهُ
بِظُهُوْرِهَا» (صحيح: أخرجه الطبراني في
الكبير ، عن أبي بكرة، انظر صحيح
الجامع [3634])، وعن ابن عباس رضي الله
عنهما، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا دَعا جَعَلَ بَاطنَ كَفِّهِ
إِلَى وَجْهِهِ" (صحيح: رواه الطبراني في
الكبير، انظر صحيح الجامع [4721])، وتقليب الكفين عند الدعاء ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستسقاء خاصة ولعل الحكمة في الإشارة بظهر
الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقليب الحال كما قيل في تحويل الرداء (نيل
الأوطارللشوكاني [4/10])، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْمَسْأَلَةُ أَنْ
تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوَهُمَا، وَالاِسْتِغْفَارُ أَنْ
تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، وَالاِبْتِهَالُ أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا
(أخرجه الضياء [468]، وأبو داود [1489]، وصححه الألباني).
الدعاء بالسبابة على المنبر وغيره: جاء
معنا صفة الدعاء بالإشارة بالسبابة على المنبر في غير الاستسقاء، وإليك الدليل على
الدعاء بالسبابة في غير ذلك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَدْعُو
بِأُصْبُعَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحِّدْ أَحِّدْ»
(حسن: أخرجه الترمذي[3810]، والنسائي [1272]، وانظر مشكاة المصابيح [913])، وعن
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قال: مَرَّ عَليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
وأنا أدْعُو، وَأُشِيرُ بِإِصْبَعَيَّ، فقال: «أَحِّدْ أحِّدْ» وَأَشار
بالسَّبَّابَةِ (إسناده صحيح: أخرجه أبو داود [1499]، والنسائي [1273]، وأبو يعلى
[793]، والحاكم في المستدرك [1966]، وقال:
إسناده صحيح، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في
صحيح أبي داود [1344])، وقال ابن الأثير رحمه الله: "أي أشر بأصبع
واحدة، لأن الذي تطلب منه واحد، وهو الله تعالى". قال الترمذي رحمه الله:
"ومعنى هذا الحديث إذا أشار الرجل بإصبعيه في الدعاء عند الشهادة، لا يشير
إلا بإصبع واحدة". اهـ
(4) حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى
الله عليه وسلم:
وعن فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ رضي الله
عنه قال: سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو في صَلاَتِهِ لَمْ
يُمَجِّدِ الله تعالى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ
رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عَجِلَ هَذَا» ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ
لِغَيْرِهِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ سبحانه،
وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ
يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ» (صحيح: أخرجه أحمد في مسنده
[23982] تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، وأبو داود[1481]،
والترمذي[3477]، والنسائي[1284]، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود [1331]: إسناده صحيح)، وعَنْ
جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم يَقُولُ: «أَفْضَل الذِّكْر: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ:
الْحَمْدُ للهِ» (حسن: أخرجه الترمذي[3383]، والنسائي، وابن ماجة[3800]، وابن حبان
في صحيحه [846] قال شعيب الأرنؤوط: إسناده
حسن، والحاكم في المستدرك [1852] وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم
يخرجاه0 وانظر صحيح الجامع [1104]).
(5) مسألة بدء المرء بالدعاء لنفسه وللغير:
من هديه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ
بالدعاء لنفسه:
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ: "أَنّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَعَا بَدَأَ بنفْسِهِ" (صحيح:
رواه الطبرني في الكبير ، انظر صحيح الجامع
للألباني [4720]. وانظر التفصيل في هذه المسألة في شرح النووي لصحيح مسلم
15 / 144 وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 9 / 328 والبخاري مع الفتح[1 / 218])،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم إِذَا دَعَا بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنَا
وَعَلَى مُوسَى، لَوْ صَبَرَ لَرَأَى مِنْ صَاحِبِهِ الْعَجَبَ، وَلَكِنَّهُ
قَالَ: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ
مِن لَّدُنِّي عُذْرًا} [الكهف من الآية:76] (البخاري[122]، ومسلم[2380]،
وأحمد[21156]، وأبو داود [3984]، والترمذي[3149]، والنسائي).
ومن هديه أيضًا صلى الله عليه وسلم كان
يبدأ بالدعاء لغيره:
عن عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه،
قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ
هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ
ثُمَّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا
فَصَبَرَ» (البخاري[3150]، ومسلم[1062]، وأحمد في
المسند[3902])، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى
رُكْنٍ شَدِيدٍ» (البخاري [3387]، ومسلم[151]، وأحمد في المسند[8329])، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ،
فَقَالَ: «رحمه الله، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً؛ أَسْقَطْتُهَا فِي
سُورَةِ كَذَا وَكَذَا» (البخاري [6335]، ومسلم[788]، وأحمد في المسند[24335]، وأبو داود[1331])، وقوله صلى
الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلا تَرُدَّهُمْ
عَلَى أَعْقَابِهِمْ» (البخاري [1295]، ومسلم[1628]، وأحمد في المسند[1524]، وأبو
داود [2864]، والترمذي[2116]).
ومن المستحب الدعاء لعموم
المسلمين والمؤمنين:
لقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه
وسلم: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد من
الآية:19]، وقوله تعالى عن نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [نوح من الآية:28]، وقوله
تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]، وقوله تعالى عن
المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10}،
وسيأتي معنا دعائه صلى الله عليه وسلم لعموم أمته في "بيان رحمته صلى الله
عليه وسلم بأمته في باب الدعاء"، وقد سبق معنا آنفًا بيان استجابة الله لدعاء
المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب، وأن الملك يرد عليه بقوله ولك بمثله، وأن المسلم
يؤجر حسنة عن كل مؤمن أو مؤمنة لاستغفاره لعموم المؤمنين.
(6) النهي عن أن تحجر واسعًا:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ:
قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ وَقُمْنَا مَعَهُ،
فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي
وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا"، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا»، يُرِيدُ
رَحْمَةَ اللَّهِ (البخاري [6010]).
(7) استحباب تكرار الدعاء وطلب المغفرة ثلاثًا:
فعن ابن مسعود رضي الله عنه في حديث دعائه
صلى الله عليه وسلم على الملأ من قريش قال: وَكَانَ إِذا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا،
وَإِذا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْك بِقُرَيْش ثَلَاث
مَرَّات» (البخاري [240]، مسلم [1794]).
(8) عزم المسألة:
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ،
وَلاَ يَقُولَنَّ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ
لَهُ» (البخاري [6338، 7464]، ومسلم [2678] وأحمد في المسند [11999])، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَقُلْ
أَحَدُكُمْ إِذَا دَعَا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ
ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ»
(البخاري [6339، 7477]، ومسلم [2679]، وأحمد[9980])، قال الإمام النووي رحمه الله:
قَوْله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدكُمْ فَلْيَعْزِمْ فِي الدُّعَاء،
وَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْت فَأَعْطِنِي فَإِنَّ اللَّه لَا مُسْتَكْرِه
لَهُ»، وَفِي رِوَايَة: «فَإِنَّ اللَّه صَانِع مَا شَاءَ لَا مُكْرِه لَهُ» وَفِي
رِوَايَة: «وَلْيَعْزِمْ الرَّغْبَة فَإِنَّ اللَّه لَا يَتَعَاظَمهُ شَيْء
أَعْطَاهُ»، قَالَ الْعُلَمَاء: "عَزْم الْمَسْأَلَة الشِّدَّة فِي طَلَبهَا،
وَالْجَزْم مِنْ غَيْر ضَعْف فِي الطَّلَب، وَلَا تَعْلِيق عَلَى مَشِيئَة
وَنَحْوهَا، وَقِيلَ: هُوَ حُسْن الظَّنّ بِاَللَّهِ تعالى فِي الْإِجَابَة،
وَمَعْنَى الْحَدِيث: اِسْتِحْبَاب الْجَزْم فِي الطَّلَب، وَكَرَاهَة التَّعْلِيق
عَلَى الْمَشِيئَة"، قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب كَرَاهَته أَنَّهُ لَا
يَتَحَقَّق اِسْتِعْمَال الْمَشِيئَة إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَتَوَجَّه عَلَيْهِ
الْإِكْرَاه، وَاَللَّه تعالى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله صلى
الله عليه وسلم فِي آخِر الْحَدِيث: «إِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِه لَهُ»، وَقِيلَ:
سَبَب الْكَرَاهَة أَنَّ فِي هَذَا اللَّفْظ صُورَة الِاسْتِعْفَاء عَلَى
الْمَطْلُوب وَالْمَطْلُوب مِنْهُ (شرح النووي على مسلم [39-40])
(9) إخفاء الدعاء:
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف من الآية:55]، وامتدح الله عبده ونبيه زكريا
فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، ولقوله صلى الله عليه
وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَيْسَ
تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ
مَعَكُمْ» (البخاري[6610]، ومسلم[2704]، وأحمد في
المسند[19520]، وأبو داود[1528]عن أبي موسى رضي الله عنه)، وفي رواية
للبخاري: «إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ
وَتَعَالَى جَدُّهُ» (البخاري [2992])، وفي رواية للإمام أحمد: «إِنَّمَا
تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ
مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» (صحيح: رواه أحمد في المسند [19599]) قال الإمام النووي
رحمه الله: "اربعوا بهمزة وصل، وبفتح الباء الموحدة، معناه ارفقوا بأنفسكم،
واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه، وأنتم
تدعون الله تعالى، وليس هو بأصم، ولا غائب، بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم
والإحاطة، ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر، إذا لم تدع الحاجة إلى رفعه، فإنه إذا
خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه". اهـ (النووي شرح مسلم [17/26])، وعَنْ
عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلاَ
تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء من الآية :110] فِي
الدُّعَاءِ" (البخاري [4722، 7526]، ومسلم[447])، وذكر ابن القيم رحمه الله
عشرة فوائد عظيمة في إخفاء الدعاء من أراد أن يتتبعها فعليه بمراجعتها في كتابه
(التفسير القيم).
(10) النهي عن الاعتداء في الدعاء:
عَنْ أَبِي نَعَامَةَ، أَنَّ عَبْدَ
اللهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ
الْقَصْرَ الأَبْيَضَ، عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ، إِذَا دَخَلْتُهَا"،
فَقَالَ: "أَيْ بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنَ
النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّهُ
سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ»
(صحيح: رواه أحمد [16847] وأبو داود [96]، وابن ماجة [3864]، وابن حبان[6763] والحاكم،
وانظر صحيح الجامع [2396])" قال العلامة شرف الحق العظيم آبادي رحمه الله قال
بعض الشراح: "إنما أنكر عبد الله على ابنه في هذا الدعاء لأن ابنه طمع ما لا
يبلغه عملاً حيث سأل منازل الأنبياء، وجعله من الاعتداء في الدعاء لما فيه من
التجاوز عن حد الأدب، وقيل لأنه سأل معينًا، والله أعلم" اهـ، وقال أيضًا:
"والمراد بالاعتداء فيه مجاوزة الحد، وقيل الدعاء بما لا يجوز ورفع الصوت به
والصياح، وقيل سؤال منازل الأنبياء عليهم السلام" اهـ (عون المعبود [1/118])،
وقال ابن القيم رحمه الله وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
[الأعراف من الآية:55]، قيل المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء إلى أن قال:
"فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على
المحرمات، وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة،
أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن
يطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدًا من غير
زوجة ولا أمة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء، فكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن
مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحبه
رسوله، وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضًا في الدعاء".
قال ابن جريح: "من الاعتداء رفع
الصوت في الدعاء، والنداء في الدعاء والصياح، وبعد فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان
الاعتداء في الدعاء مرادًا بها فهو من جملة المراد، والله لا يحب المعتدين في كل
شيء، دعاء كان أو غيره، كما قال: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} [البقرة من الآية:190، المائدة من الآية:87]، وعلى هذا فيكون قد
أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان، وهم الذين يدعون معه غيره، فهؤلاء
أعظم المعتدين عدوانًا، فإن أعظم العدوان هو الشرك، وهو وضع العبادة في غير
موضعها، فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلاً في قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف من الآية:55] ومن العدوان: أن يدعوه غير متضرع، بل دعاء
مُدلّ كالمستغني بما عنده المدل على ربه به، وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء
الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين
متضرع خائف فهو معتد".
ومن الاعتداء: أن تعبده بما لم يشرعه،
وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه، فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء
والعبادة، وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب، وعلى هذا فتكون الآية دالة
على شيئين:
أحدهما: محبوب للرب تبارك وتعالى مُرضي
له، وهو الدعاء تضرعا وخفية.
الثاني: مكروه له مبغوض مسخوط، وهو
الاعتداء، فأمر بما يحبه الله وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو ابلغ طرق
الزجر والتحذير، وهو أنه لا يحب فاعله، ومن لم يحبه الله فأي خير يناله؟ وفي قوله:
{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف من الآية:55] عقب قوله: {ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف من الآية:55] دليل على أن من لم يدعه
تضرعًا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم، فقسمت الآية الناس إلى قسمين داع
لله تضرعًا وخفية، ومعتد بترك ذلك (التفسير القيم للإمام ابن القيم[1/388-390]).
(11) علو الهمة في الدعاء:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلاَ يَقُلِ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ
وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ»
(البخاري [6339]، ومسلم [2679]واللفظ له، وأحمد في المسند[9968]، وابن حبان في صحيحه[977])، وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَأَلَ أَحَدُكُمْ
فَلْيُكْثِر، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ» (صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه [889] قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح
على شرط الشيخين، و انظر صحيح الجامع [591]، وبنحوه عن الطبراني في الأوسط برقم [437])، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي
الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ
أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ
الَّتِي وُلِدَ فِيهَا»، فَقَالُوا: "يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ
النَّاسَ"، قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا
اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ
الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، أُرَاهُ
فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ»
(البخاري[2790] وأحمد في المسند[8400]،
والترمذي[2529]مختصرًا، وابن حبان في
صحيحه[4611]، والترمذي[2530]عن معاذ بن جبل)، وعَنْ عَبْد اللهِ، قَالَ:
قَالَت أمُّ حَبيبَةَ زَوْجُ النًّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: اللهُمَّ أمْتِعْنِي
بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِأبِي أبِى سُفْيَانَ، وَبِأخِي
مُعَاوِيَةَ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ سَألتِ اللهَ
لآجَالٍ مَضْرُوبَة، وَأيَّامٍ مَعْدُودَة، وَأرْزَاق مَقْسُومَة، لَنْ يُعَجِّلَ
شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أوْ يُؤخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّه، وَلَوْ كُنْت سَألتِ
اللهَ أنْ يعيذَك مِنْ عَذَاب فِي النَّار، أو عَذَابٍ فِي القَبْرِ، كَانَ
خَيْرًا وَأَفْضَلَ» (مسلم [2663]، وأحمد في
المسند[3700]) قال الإمام النووي رحمه الله: "فإن قيل: ما الحكمة في نهيها
عن الدعاء بالزيادة في الأجل لأنه مفروغ منه، وندبه إلى الدعاء بالاستعاذة من
العذاب، مع أنه مفروغ منه أيضاً كالأجل؟
فالجواب: أن الجميع مفروغ منه، لكن
الدعاء بالنجاة من عذاب النار ومن عذاب القبر ونحوهما عبادة، وقد أمر الشرع
بالعبادات، فقيل: أفلا نتكل على كتابنا وما سبق لنا من القدر؟ فقال: «اعملوا فكل
ميسر لما خُلق له»، وأما الدعاء بطول العمر فليس عبادة، وكما لا يحسن ترك الصلاة
والصوم والذكر اتكالاً على القدر فكذا الدعاء بالنجاة من النار ونحوه. والله
أعلم" (النووي شرح صحيح مسلم).
وأقول: من المعلوم أن الأعمال سبب في
دخول الجنة أو النار، فما كان منها صالحًا ابتُغي به وجه الله كان سببًا في دخول
الجنة، وما كان منها كفرًا، أو بدعًا، أو كبائر، كان سببًا في دخول النار، فيخلد
في النار كل من مات على الكفر، أو الشرك، أو النفاق الاعتقادي، ويخرج منها
الموحدين، ومن تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ،
وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (مسلم[2822] وأحمد، والترمذي[2559]، عن أنس،
وأحمد في [8931]عن أبي هريرة، انظر صحيح
الجامع [3147]) تبين له ذلك.
ومن المعلوم أيضًا أن سؤال العباد
لربهم النجاة من عذاب النار، وعذاب القبر دليل على إشفاقهم من عذاب الله، تعظيمًا
لمقام الله عندهم مع قيامهم بأعمال أهل الإيمان كما قال تعالى في سورة المعارج بعد
أن ذكرهم وامتدحهم بصفاتهم وأعمالهم: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ
مُشْفِقُونَ} [المعارج:27]، وكما معلوم لنا أيضًا أن هذا يكون سببًا في أمنهم يوم
القيامة من عذاب الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن
ربه تبارك وتعالى: «وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لاَ أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَمْنَيْنِ
وَلاَ خَوْفَيْنِ، إِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا، أَخَفْتُهُ يَوْمَ
أَجْمَعُ عِبَادِي، وَإِنْ هُوَ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ
أَجْمَعُ عِبَادِي» (حسن: رواه أبو نعيم في
الحلية عن شداد بن أوس رضي الله عنه، انظر صحيح الجامع [4332])، وأيضًا يأتي العبد المسلم الذي كان
يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، فتحاج الجنة والنار عنه يوم القيامة كما
أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الْجَنَّةَ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ، قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ
اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرهُ
مِنَ النَّارِ» (صحيح: أخرجه الترمذي، والنسائي، والحاكم في المستدرك
عن أنس رضي الله عنه، انظر صحيح الجامع [6275]).
ما يقوله من أراد الاجتهاد في الدعاء
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتُحِبُّونَ أيُّها النَّاسُ أنْ
تَجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ؟ قولوا: اللَّهمَّ أعِنَّا على شُكْرِكَ، وذِكْرِكَ،
وحُسْنِ عَبَادَتِكَ» (صحيح: رواه أحمد في
المسند[7969]تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير
أبي قرة الزبيدي، والحاكم في المستدرك ، وأبو نعيم في الحلية ، انظر
صحيح الجامع [81]، و الصحيحة للألباني).
(12) النهي عن السجع في الدعاء:
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: "حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ
فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ أَكْثَرْتَ فَثَلاَثَ مِرَارٍ، وَلاَ تُمِلَّ النَّاسَ
هَذَا الْقُرْآنَ، وَلاَ أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِى الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ
حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ
فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ
يَشْتَهُونَهُ، فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنْ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ.
يَعْنِى لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ الاِجْتِنَابَ" (البخاري[6337])، وقال
الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "أصل السجع: القصد المستوى، وسجع الحمامة
موالاة صوتها على طريق واحدة".
قال الليث: "سجع الرجل إذا انطق
بالكلام له فواصل، وقول رسول الله: «أسجع كسجع الأعراب»، إنما كرهه لمشاكلته كلام
الكهان، ونهى عن السجع في الدعاء؛ لأن ذلك ينبغي عن حرقة القلب لا عن تصنع، وقد
يقع عن تصنع، وقد يقع غير تصنع فلا يذم لقوله: «أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين
لا تدمع» (غريب الحديث [1/463])"، وقال الحافظ بن حجر رحمه الله في شرحه قول
ابن عباس": أي لا تقصد إليه، ولا تشغل فكرك به، لما فيه من التكلف المانع
للخشوع المطلوب في الدعاء" (الفتح [11/143])، وقال الإمام الخطابي رحمه الله:
"وقد أولع كثير من العامة بأدعية منكرة اخترعوها، وأسماء سموها، ما أنزل الله
بها من سلطان، وقد يوجد في أيديهم دستور من الأسماء والأدعية يسمونه (الألف اسم)
صنعها لهم بعض المتكلفين من أهل الجهل والجرأة على الله عز وجل، أكثرها زورًا
وافتراءً على الله عز وجل، فليتجنبها الداعي إلا ما وافق الصواب إن شاء
الله". اهـ (شأن الدعاء [16، 17]).
(13) الحرص عند الدعاء بالمأثور أن يكون بلفظه:
(استفدت هذا الأدب من كتاب
عودوا إلى خير الهدى لفضيلة الشيخ /محمد أحمد أسماعيل المقدم. ط. دار
الإيمان [ص: 46]) عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ
اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي
إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً
وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ،
اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي
أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ،
وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا بَلَغْتُ: "اللَّهُمَّ آمَنْتُ
بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ"، قُلْتُ: "وَرَسُولِكَ"، قَالَ:
«لاَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» (البخاري[247])
(14) الفقه بمسألة تقييد الدعاء بحقيقة الأمر بما عند الله تعالى
لا بظاهره:
كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ
يَتِيمَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
الْيَتِيمَةَ، فَقَالَ: «آنْتِ هِيَهْ، لَقَدْ كَبِرْتِ لاَ كَبِرَ سِنُّكِ»،
فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ:
"مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ؟" قَالَتِ الْجَارِيَةُ: "دَعَا عَلَيَّ
نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ يَكْبَرَ سِنِّي، فَالآنَ لاَ يَكْبَرُ
سِنِّي أَبَدًا"، أَوْ قَالَتْ: "قَرْنِي"، فَخَرَجَتْ أُمُّ
سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا، حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكِ يَا
أُمَّ سُلَيْمٍ؟» فَقَالَتْ: "يَا نَبِيَّ اللهِ، أَدَعَوْتَ عَلَى
يَتِيمَتِي؟" قَالَ: «وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟» قَالَتْ:
"زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لاَ يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلاَ يَكْبَرَ
قَرْنُهَا"، قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:
«يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي
اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كَمَا
يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ
دَعَوْتُ عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ
يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا، وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً، تُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (مسلم [2603])، وفي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ
ثَلاَثَةٌ، فذكر الحديث وفيه قَالَ: وَبَيْنَا امْرَأَةٌ جَالِسَةٌ وَفِي
حِجْرِهَا ابْنٌ لَهَا تُرْضِعُهُ، إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ،
فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا ثُمَّ
أَقْبَلَ إِلَى الرَّاكِبِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي
مِثْلَ هَذَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي مَصَّهُ
وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ فِي فِيهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا، ثُمَّ مَرَّ بِأَمَةٍ مَعَهَا
النَّاسُ تَضْرِبُهَا، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ،
فَتَرَكَ ثَدْيَهَا ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهَا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي
مِثْلَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: خَلَفِي أَيْ
بُنَيَّ: مَرَّ بِيَ الرَّاكِبُ ذُو شَارَةٍ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي
مِثْلَ هَذَا، قُلْتَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ مَرَّ بِهَذِهِ
الأَمَةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ الأَمَةِ،
فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَ: يَا أُمَّتَاهُ، إِنَّ
الرَّاكِبَ الَّذِي مَرَّ بِكِ جَبَّارٌ، فَدَعَوْتِ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي
مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَهَذِهِ يَقُولُونَ:
سَرَقَتْ وَلَمْ تَسْرِقْ، وَزَنَتْ وَلَمْ تَزْنِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ
اللَّه» (البخاري[2482، 3436] ومسلم[2550]، و أحمد [8057، 8058])، وقول أصحاب الغار
الثلاثة عندما سدت عليهم الصخرة باب الغار بأن توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم بأن
يفرج الله عنهم ما هم فيه: «اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ» الحديث، قال تقي الدين السبكي رحمه
الله: "ظهر لي أن الضرورة قد تلجئ إلى تعجيل جزاء بعض الأعمال في الدنيا، وأن
هذا منه، ثم ظهر لي أنه ليس في الحديث رؤية عمل بالكلية، لقول كل واحد منهم:
"إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك"، فلم يعتقد أحد منهم في عمله
الإخلاص، بل أحال أمره إلى الله، فإذا لم يجزموا بالإخلاص فيه مع كونه أحسن
أعمالهم فغيره أولى، فيستفاد منه: أن الذي يصلح في مثل هذا أن يعتقد الشخص تقصيره
في نفسه، ويسئ الظن بها، ويبحث عن كل واحد من عمله يظن أنه أخلص فيه، فيفوض أمره
إلى الله، ويعلق الدعاء على علم الله به، فحينئذ يكون راجيًا للإجابة، خائفًا من الرد،
فإن لم يغلب على ظنه إخلاصه ولو في عمل واحد، فليقف عند حده، ويستحي أن يسأل الله
بعمل ليس بخالص". أهـ (فتح الباري [6/510]) وقوله صلى الله عليه وسلم:
«اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا
كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» (البخاري[5671]، ومسلم[2680])، وقول أبي هريرة
رضي الله عنه في صلاته على الجنازة: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ، وَابْنُ
عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ
إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ
عَن سَيِّئَاتِهِ» (صحيح موقوف: أخرجه مالك [1 227] وعنه محمد بن الحسن [164 165]
وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة صلى الله
عليه وسلم رقم 5 [93] 27 وسنده موقوف صحيح
جدًا، وقد ساق الهيثمي منه الدعاء مرفوعًا من حديث أبي هريرة وقال: رواه أبو يعلى
ورجاله ورجال الصحيح. وقد تقدم بلفظ آخر فيه الجملة الأخيرة منه، وهو النوع
[الثاني]، انظر أحكام الجنائز [ص125124])، وفي دعاء سعد ابن أبي وقاص على من ظلمه:
لدعائه رضي الله عنه على من ظلمه فقال: "أَمَا وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ
بِثَلاَثٍ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً
وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ"
الحديث (البخاري[755])، وفي دعاء الاستخارة ما يفيد ذلك: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ
أَمْرِي، أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي،
وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا
الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: فِي
عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ
لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ» قَالَ: «وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»
(سبق تخريجه).
(15) النهي عن رفع البصر عند الدعاء في الصلاة إلى السماء والتحذير
من ذلك:
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَن رَفْعِهِمْ
أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ
لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» (مسلم [429])، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله:
"لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع وهو الذل والسكوت لا يناسب حاله أن
ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله بل يناسب حاله الإطراق، وغض بصره أمامه"
(مجموع الفتاوى [6/577])، وقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: "فِيهِ
النَّهْيُ الْأَكِيدُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ نُقِلَ
الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ يُفِيدُ تَحْرِيمُهُ" (شرح مسلم [4/152]).
(16) حكم الدعاء الجماعي بعد التسليم من الصلاة:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
"إن دعاء الإمام للجماعة ليس في السنة ما يعضده، بل فيها ما ينافيه، فإن الذي
يجب الاقتداء به سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، والذي ثبت عنه من العمل
بعد الصلوات إما ذكر مجرد لادعاء فيه، وإما دعاء يخص به نفسه، ولم يثبت عنه أنه
دعا للجماعة، وما زال كذلك مدة عمره، ثم الخلفاء الراشدون من بعده، ثم السلف
الصالح" (الفتاوى للشاطبي [127، 128])، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو والمأمومون عُقيب الصلوات
الخمس، كما يفعله بعض الناس عُقيب الفجر والعصر، ولا نُقل عن أحد من الصحابة، ولا
استحب ذلك أحد من الأئمة، ومن نقل عن الشافعي أنه قد استحب ذلك فقد غلط عليه،
ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، وكذلك الإمام أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا
ذلك" (مجموع الفتاوى[22/512]، والفتاوى الكبرى [2/212]).
(17) صفة الدعاء المستجاب:
نختم هذا الفصل بما يجمع علينا خلاصة
المسألة بما أوردنا بحمد الله في الفصل السابق والذي معنا من قول ابن القيم رحمه
الله: "وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف
وقتًا من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين
الأذان والإقامة، وإدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على
المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعًا في القلب
وانكسارًا بين يدي الرب، وذلاً له وتضرعًا ورقة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على
طهارة ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على
محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة، والاستغفار،
ثم دخل على الله، وألح عليه في المسألة، وتملقه ودعاه رغبة ورهبة، وتوسل إليه
بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعائه صدقة، فان هذا الدعاء لا يكاد يرد
أبدًا، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي أنها مظنة الإجابة، أو أنها
متضمنة للاسم الأعظم" (الجواب الكافي للإمام ابن القيم رحمه الله ط. دار
الريان [ص:9]).
(18) مختصر من آداب الدعاء وأسباب الإجابة:
1- الإخلاص لله.
2- أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم بالصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم ويختم بذلك.
3- الجزم في الدعاء واليقين بالإجابة.
4- الإلحاح في الدعاء وعدم الاستعجال.
5- حضور القلب في الدعاء.
6- الدعاء في الرخاء والشدة.
7- لا يسأل إلا الله وحده.
8- عدم الدعاء على الأهل، والمال، والولد، والنفس.
9- خفض الصوت بالدعاء بين المخافتة والجهر.
10- الاعتراف بالذنب والاستغفار منه والاعتراف بالنعمة وشكر الله
عليها.
11- عدم تكلف السجع في الدعاء.
12- التضرع والخشوع والرغبة والرهبة.
13- رد المظالم مع التوبة.
14- الدعاء ثلاثًا.
15- استقبال القبلة.
16- رفع الأيدي في الدعاء.
17- الوضوء قبل الدعاء إن تيسر.
18- أن لا يعتدي في الدعاء.
19- أن يبدأ الداعي بنفسه إذا دعا لغيره (قد ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه بدأ بنفسه بالدعاء وثبت أيضًا أنه لم يبدأ بنفسه كدعائه لأنس، وابن
عباس، وأم إسماعيل، وغيرهم. وانظر التفصيل في هذه المسألة في شرح النووي لصحيح
مسلم[15 / 144]وتحفة الأحوذي وشرح سنن الترمذي[9/328] والبخاري مع الفتح [1/218]).
20- أن يتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أو بعمل صالح
قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجل صالح حي حاضر له.
21- أن يكون المطعم والمشرب والملبس من حلال.
22- لا يدعو بإثم أو قطيعة رحم.
23- أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
24- الابتعاد عن جميع المعاصي (أعمال الحج إعداد وجمع وترتيب/ عبد
الله بن أحمد العلاف، دار الطرفين للنشر والتوزيع بالسعودية، نقلاً عن الموسوعة الشاملة).
صلاح عامر قمصان