بَاب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ
من شرح كتاب الرقاق من صحيح الإمام
البخاري
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى}أَيَحْسِبُونَ أَنَّ
مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ دُونِ
ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ {قَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمْ يَعْمَلُوهَا
لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا.
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ
لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ
(56) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ
(59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ
رَاجِعُونَ (60) أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
(61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
(63) ) .
قال الإمام البخاري رحمه الله في
صحيحه
6081 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ
حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى
غِنَى النَّفْسِ .
الشرح
قَوْلُهُ (بَاب
الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) أَيْ
سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ قَلِيلَ الْمَالِ أَوْ كَثِيرَهُ وَالْغِنَى .
قَوْلُهُ وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ - إِلَى قَوْلِهِ - هُمْ
لَهَا عَامِلُونَ وَهَذِهِ رَأْسُ الْآيَةِ
التَّاسِعَةِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْآيَةِ الْمُبْدَأِ بِهَا هُنَا وَالْآيَاتُ الَّتِي
بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَبَيْنَ الْأَخِيرَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا اعْتَرَضَتْ
فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ
مِنْ هَذَا لَلْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ نَمُدُّهُمْ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ ذُكِرَ
قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا وَالْمَعْنَى
أَيَظُنُّونَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي نَرْزُقُهُمْ إِيَّاهُ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا
؟ إِنْ ظَنُّوا ذَلِكَ أَخْطَئُوا بَلْ هُوَ اسْتِدْرَاجٌ كَمَا قَالَ - تَعَالَى –
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا
إِثْمًا) وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا أَيْ مِنَ الِاسْتِدْرَاجِ الْمَذْكُورِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْأَعْمَالَ مِنْ كُفْرٍ
أَوْ إِيمَانٍ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ بِقَوْلِهِ
لَمْ يَعْمَلُوهَا لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوهَا وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ
أَيْضًا السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ فَقَالُوا الْمَعْنَى كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ لَا
بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا قَبْلَ مَوْتِهِمْ لِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
ثُمَّ مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلْحَدِيثِ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْمَالِ لَيْسَتْ لِذَاتِهِ
بَلْ بِحَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى خَيْرًا فِي الْجُمْلَةِ
وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمَالِ الْكَثِيرِ لَيْسَ غَنِيًّا لِذَاتِهِ بَلْ بِحَسَبِ تَصَرُّفِهِ
فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ غَنِيًّا لَمْ يَتَوَقَّفْ فِي صَرْفِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ
وَالْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ
فَقِيرًا أَمْسَكَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ خَشْيَةً مِنْ نَفَادِهِ
فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَقِيرٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَإِنْ كَانَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِهِ
لِكَوْنِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْأُخْرَى بَلْ رُبَّمَا
كَانَ وَبَالًا عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَمَّا
عَنْ فَهِيَ سَبَبِيَّةٌ وَأَمَّا الْعَرَضُ فَهُوَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ مَتَاعِ
الدُّنْيَا وَيُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْجَوْهَرَ وَعَلَى كُلُّ
مَا يَعْرِضُ لِلشَّخْصِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبُونِيُّ
فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ عَنْهُ قَالَ اتَّصَلَ بِي عَنْ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ
الْقَيْرَوَانِ أَنَّهُ قَالَ الْعَرَضُ بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ الْوَاحِدُ مِنَ الْعُرُوضُ
الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا قَالَ وَهُوَ خَطَأٌ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -
: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّهُ مَا يَعْرِضُ فِيهِ
وَلَيْسَ هُوَ أَحَدَ الْعُرُوضِ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا بَلْ وَاحِدُهَا عَرْضٌ
بِالْإِسْكَانِ وَهُوَ مَا سِوَى النَّقْدَيْنِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْعُرُوضُ
الْأَمْتِعَةُ وَهِيَ مَا سِوَى الْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَمَا لَا يَدْخُلُهُ كَيْلٌ
وَلَا وَزْنٌ وَهَكَذَا حَكَاهُ عِيَاضٌ
وَغَيْرُهُ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ : الْعَرْضُ
بِالسُّكُونِ كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَالِ غَيْرَ نَقْدٍ وَجَمْعُهُ عُرُوضٌ وَأَمَّا
بِالْفَتْحِ فَمَا يُصِيبُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَظِّهِ فِي الدُّنْيَا قَالَ - تَعَالَى
- : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَقَالَ : وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ
.
قَوْلُهُ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ
وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِمَا " إِنَّمَا الْغِنَى فِي النَّفْسِ
" وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ
" قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَبَا
ذَرٍّ أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى ؟ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ وَتَرَى قِلَّةَ
الْمَالِ هُوَ الْفَقْرَ ؟ قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّمَا الْغِنَى
غِنَى الْقَلْبِ وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ (1) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَعْنَى
الْحَدِيثِ لَيْسَ حَقِيقَةُ الْغِنَى كَثْرَةَ الْمَالِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ
وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ لَا يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ فَهُوَ يَجْتَهِدُ
فِي الِازْدِيَادِ وَلَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ فَكَأَنَّهُ فَقِيرٌ لِشِدَّةِ
حِرْصِهِ وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ وَهُوَ مَنِ اسْتَغْنَى بِمَا
أُوتِيَ وَقَنِعَ بِهِ وَرَضِيَ وَلَمْ يَحْرِصْ عَلَى الِازْدِيَادِ وَلَا أَلَحَّ
فِي الطَّلَبِ ، فَكَأَنَّهُ غَنِيٌّ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ :
مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْغِنَى النَّافِعَ أَوِ الْعَظِيمَ أَوِ الْمَمْدُوحَ هُوَ
غِنَى النَّفْسِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَتْ نَفْسُهُ كَفَّتْ عَنِ الْمَطَامِعِ
فَعَزَّتْ وَعَظُمَتْ وَحَصَلَ لَهَا مِنَ الْحُظْوَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَالشَّرَفِ
وَالْمَدْحِ أَكْثَرُ مِنَ الْغِنَى الَّذِي يَنَالُهُ مَنْ يَكُونُ فَقِيرَ النَّفْسِ
لِحِرْصِهِ فَإِنَّهُ يُوَرِّطُهُ فِي رَذَائِلِ الْأُمُورِ وَخَسَائِسِ الْأَفْعَالِ
لِدَنَاءَةِ هِمَّتِهِ وَبُخْلِهِ وَيَكْثُرُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنَ النَّاسِ وَيَصْغُرُ
قَدْرُهُ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ أَحْقَرَ مِنْ كُلِّ حَقِيرٍ وَأَذَلَّ مِنْ كُلِّ ذَلِيلٍ
.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِغِنَى النَّفْسِ يَكُونُ قَانِعًا
بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ لَا يَحْرِصُ عَلَى الِازْدِيَادِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا يُلِحُّ
فِي الطَّلَبِ وَلَا يُلْحِفُ فِي السُّؤَالِ بَلْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ
فَكَأَنَّهُ وَاجِدٌ أَبَدًا وَالْمُتَّصِفُ بِفَقْرِ النَّفْسِ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ
لِكَوْنِهِ لَا يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ بَلْ هُوَ أَبَدًا فِي طَلَبِ الِازْدِيَادِ
مِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ ثُمَّ إِذَا فَاتَهُ الْمَطْلُوبُ حَزِنَ وَأَسِفَ فَكَأَنَّهُ
فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا أُعْطِيَ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ
بِغَنِيٍّ ثُمَّ غِنَى النَّفْسِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ
- تَعَالَى - وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ عِلْمًا بِأَنَّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
وَأَبْقَى فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ الْحِرْصِ وَالطَّلَبِ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ
غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ فَإِنْ زَادَ شَيْئًا
عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرًا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ : يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِغِنَى النَّفْسِ حُصُولُ
الْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْقَائِلُ
( وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ
مَالِهِ مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ
الْفَقْرُ )
أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ أَوْقَاتَهُ فِي الْغِنَى الْحَقِيقِيِّ
وَهُوَ تَحْصِيلُ الْكَمَالَاتِ لَا فِي جَمْعِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِذَلِكَ
إِلَّا فَقْرًا انْتَهَى وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ لَكِنَّ الَّذِي
تَقَدَّمَ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ غِنَى النَّفْسِ بِغِنَى الْقَلْبِ
بِأَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى رَبِّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ فَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ الْمُعْطِي
الْمَانِعُ فَيَرْضَى بِقَضَائِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَى نَعْمَائِهِ وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ
فِي كَشْفِ ضَرَّائِهِ فَيَنْشَأُ عَنِ افْتِقَارِ الْقَلْبِ لِرَبِّهِ غِنَى نَفْسِهِ
عَنْ غَيْرِهِ وَبِهِ - تَعَالَى - وَالْغِنَى الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ وَوَجَدَكَ
عَائِلًا فَأَغْنَى يَتَنَزَّلُ عَلَى غِنَى النَّفْسِ فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ
وَلَا يَخْفَى مَا كَانَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ
أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْهِ خَيْبَرُ وَغَيْرُهَا مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
شرح الشيخ بن عثيمين صـــ38
قوله: { وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ }وأتى بـ (يُؤْمِنُونَ ) لأن هذه الآيات تتجدد فالذين في وقت نزول القرآن
تتنزل عليهم الآيات يوماً فيوماً كلما نزلت آية ازدادوا إيماناً { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن
يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }التوبة. وكذلك الآيات الكونية تتجدد فكلما جاءت آية مطابقة
لما أخبر الله ورسوله زادت المؤمن إيماناً ولهذا قال: { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
} ولم يقل: مؤمنون كما قال: مشفقون ، والإيمان يتكرر فكلما أتتهم آية كلما ازدادوا
إيماناً قوله: { وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ
}...
أتى بالجملة الفعلية ولم يقل غير مشركين ،
وذلك لأنهم لا يشركون في أي فعل يفعلونه لله ، فلا رياء عندهم ولا سمعة ولا يريدون
الدنيا بعملهم إنما يريدون الله سبحانه.
قوله: { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } وهذا الكتاب ما كتبته الملائكة من أعمال
البني آدم ، فهو ينطق بالحق يوم القيامة ويقال للإنسان: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ
عَلَيْكَ حَسِيبًا }الإسراء .
قال الحسن: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك
، فأنت حاسب على نفسك لا تطلب محاسب ، وستجد أن الأمر كما كُتب.
قوله: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ
ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } وهذا كقوله في بداية الآيات { بَل لَّا يَشْعُرُونَ } وهنا قال: { فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا } أي قد حل بها ما غمرها ولم يتفطنوا لها.
{ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } هي أعمال الدنيا ، لذا قال: { مِّن دُونِ ذَٰلِكَ } إشارة لانحطاط رتبتها ، ثم قال: { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } جملة إسمية ، أي متقنون لها ، وقدم المفعول { لَهَا عَامِلُونَ } للدلالة على أنهم قد حصروا أنفسهم وعقولهم
في هذه الأعمال الدنيوية.
قوله: قال ابن عُيينة: لم يعملوها لا بد من
أن يعملوها. أي هم ما عملوها بعد ، لكن لا بد أن يعملوها ، أي أنهم مصرون عل عملها.
الحديث
الأول
عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (لَيْسَ الْغِنَى
عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ ).
فالغنى ليس بكثرة المال ، لكنه غنى النفس ن
وغنى القلب ، فكم من إنسان عنده ملايين الملايين ، ومع ذلك يعمل عمل الفقير من شدة
حرصه على المال وطلبه له ، وكم إنسان عنده دون ذلك بكثير تجده لا يهتم وتجده كريماً
يُعطِي أكثر مما يعطي صاحب الأموال الكثيرة.
س: كيف نجمع بين كونهم في الآية يخشون القبول
وبين الحديث القدسي ( أنا عند ظن عبدي بي ) ؟
ج: أشرنا للجمع بينهما ، وذلك بحسن ظن العبد
بربه وليس فيه سوء ظن بالله لكنه اتهام لأنفسهم بالتقصير ، فالمطلوب من الإنسان أن
يحسن الظن بالله باعتبار قبوله لكن يخشى أنه مقصر ، أو عنده رياء ، أو عنده ابتداع
، فالإنسان لا يدري ن فلا يقل أحدهم أنا عملت فلا بد أن يقبل مني ، كما قال البدوي
وهو يسعى: يا رب إن لم تغفر لي فلا بد أن تغفر ، فهذا لا يقال ، بل يتهم نفسه ، ويحسن
الظن بالله ، فيقول مثلاً: أرجو أن يقبل الله مني ، وهذا إبراهيم عليه السلام وإسماعيل
يرفعان القواعد من البيت ويقولان { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ }.
س: هل للإنسان أن يدعو ويلح اللهم إن لم تغفر
لي فاغفر لي ؟
ج: ما ينبغي
هذا بل يعزم المسألة ، أو يقول كما قال الصالحون { لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا
وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } الأعراف .
(1) يا أبا ذَرٍّ ! أتَرَى كَثْرةَ المالِ هو
الغِنَى ؟ قلتُ : نَعمْ يا رسولَ اللهِ ! قال : فَتَرَى قِلَّةَ المالِ هو الفقرَ ؟
قُلتُ : نَعمْ يا رسولَ اللهِ ! قال : إنَّما الغِنَى غِنَى القلبِ ، والفَقْرُ فَقْرُ
القلبِ ثُمَّ سأَلَنِي عن رجلٍ من قُريْشٍ قال : هل تَعرِفُ فلانًا ؟ قُلتُ : نَعمْ
يا رسولَ اللهِ ! قال : فكيفَ تَراهُ – أو تُراهُ ؟ قُلتُ : إذا سَألَ أُعطِىَ ، وإذا
حَضَرَ أُدْخِلَ قال : ثُمَّ سَأَلَنِي عن رجلٍ من أهلِ الصُّفَّةِ ، فقال : هل تعرِفُ
فلانًا ؟ ( قُلتُ : لا واللهِ ما أعرِفُهُ يا رسولَ اللهِ ! فما زالَ يُحَلِّيهِ ويَنْعتُه
حتى عرفتُه فقلتُ : قد عرفتُه يا رسولَ اللهِ ! قال : فكيفَ تَراهُ – أو تُراهُ ؟ قُلتُ
: هو رجلٌ مِسكينٌ من أهلِ الصُّفَّةِ قال : فهُو خيرٌ من طِلاعِ الأرضِ من الآخَرِ.
قُلتُ : يا رسولَ اللهِ ! أفَلا يُعطَى من بعضِ ما يُعطَى الآخَرُ ؟ فقال : إذا أُعطِيَ
خيرًا فهُو أهلُه ، وإذا صُرِفَ عنهُ فقدْ أُعطِيَ حَسنةً
الراوي : أبو ذر الغفاري | المحدث : الألباني
| المصدر : صحيح الترغيب
الصفحة أو الرقم: 3203 | خلاصة حكم المحدث
: صحيح