الحديث (المعلق)
هو ما حذف أول سنده، سواء أكان المحذوف واحداً أم أكثر على التوالي، ولو إلى آخر السند،
كقول الشافعي: قال نافع، أو قال ابن عمر، أو قال النبي صلى الله عليه
وسلم. وأول من أطلق هذا الاصطلاح هو الحافظ الدارقطني، ثم اشتهر على لسان
المحدثين، ويقع هذا كثيراً عندهم، فهم يحذفون السند أحياناً ويقصدون به
الاختصار، أو يذكرون حديثاً تقوية للاستدلال على موضع الباب، وهو قد لا
يكون على شرط المصنف، قال الحافظ ابن حجر: والمراد بالتعليق ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد، وتارة يجزم به كـ (قال)، وتارة لا يجزم به كـ (يذكر).
وسمي (المعلق) بهذا الاسم؛
كأنه مأخوذ من تعليق الجدار أو الطلاق؛ لاشتراكهما في قطع الاتصال، ولم
يستعملوه فيما سقط وسط سنده، أو آخره لتسميتهما بالمنقطع والمرسل، ولا في
غير صيغة الجزم مثل: يروى عن فلان، ويذكر عنه، وشبه ذلك، وقد أورده البخاري
كثيراً في "صحيحه"، وليس بخارج من قبيل الصحيح -بمعنى ليس على شرط الصحيح
عنده- وإن كان على صورة المنقطع فقد يفعل البخاري ذلك؛ لكون الحديث معروفاً
من جهة الثقات عمن علقه عنه، أو لكونه ذكره متصلاً في موضع آخر من كتابه،
أو لسبب آخر لا يصحبه خلل الانقطاع، وهذا فيما يورده أصلاً أو مقصوداً لا
في معرض الاستشهاد؛ لأن الشواهد يحتمل فيها ما ليس من شرط الصحيح، معلقاً
كان الشاهد، أو موصولاً.
ومن
صور التعليق أن يحذف جميع الإسناد، فيقال مثلاً: (قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم). ومنها أن يحذف جميع الإسناد إلا الصحابي، أو التابعي، ومنها أن
يحذف المصنف شيخه الذي حدثه، ويضيف الحديث إلى من فوقه، قال الحافظ ابن حجر: "فإن
كان من فوقه شيخاً لذلك المصنف، فقد اختلف فيه: هل يسمى تعليقاً أو لا؟
والصحيح في هذا التفصيل، فإن عُرف بالنص، أو الاستقراء أن فاعل ذلك مدلس،
قضى به، وإلا فتعليق".
أقسام المعلقات في "صحيح البخاري"
- منها ما يوجد موصولاً في موضع آخر،
وإنما يورده معلقاً حيث يضيق مخرج الحديث، -أي ليس له طرق أخرى صحيحة
متصلة عنده- فمتى ضاق المخرج واشتمل المتن على أحكام؛ فإنه يكرره مختصراً
في الإسناد خشية التطويل.
- ومنها ما لا يوجد فيه إلا معلقاً، وهو على صورتين: إما أن يورده بصيغة الجزم، وإما أن يورده بصيغة التمريض؛
فالصيغة الأولى يُستفاد منها الصحة إلى من علّق عنه، لكن يبقى النظر فيمن
أبرز من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق، وانظر
تتمة هذا الكلام في مقدمة "فتح الباري" للحافظ ابن حجر، وهو كلام طويل يصعب
حصره.
كما
نعلم فإن من عادة الإمام البخاري أن يكرر الأحاديث ويقطعها، ولكنه لا
يكررها إلا لفائدة، وقد تكون الفائدة إسنادية أو متنية، أو يكون الحديث عن
صحابي فيعيده عن صحابي آخر، أو أن يسوقه بالعنعنة ثم يعيده بالتصريح
بالسماع. قال الحافظ ابن حجر:
"اعلم أن البخاري رحمه الله كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع، ويستدل به
في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج طريق واحدة، فيتصرف حينئذ فيه، فيورده في
موضع موصولاً، وفي موضع معلقاً، ويورده تارة تاماً، وتارة مقتصراً على طرفه
الذي يحتاج إليه في ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملاً على جمل متعددة، لا
تعلق لإحداها بالأخرى فإنه منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه
الباب الذي أخرجه فيه، وقلما يورد حديثاً في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد،
وإنما يورده من طريق أخرى لمعان نذكرها...فمنها أنه يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر،
والمقصود منه أن يخرج الحديث عن حد الغرابة، وكذلك يفعل في أهل الطبقة
الثانية والثالثة، وهلم جرا إلى مشايخه، فيعتقد من يرى ذلك من غير أهل
الصنعة أنه تكرار، وليس كذلك لاشتماله على فائدة زائدة".
أسباب وجود المعلقات
أورد
الإمام البخاري الأحاديث المعلقة إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه، فاستغنى
عن إيراده هنا مستوفى السياق، ولم يهمله، بل أورده بصيغة التعليق طلباً
للاختصار، وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعاً، أو سمعه وشك في سماعه له من
شيخه، أو سمعه من شيخه مذاكرة، فما رأى أن يسوقه مساق الأصل، وغالب هذا
فيما أورده عن مشايخه.
حكم الحديث المعلق
الأصل
في الحديث المعلق أنه مردود، وذلك لجهالة المحذوف فيه، إلا إن التزم مصنفه
الصحة في كتابه، كما هو الحال في "صحيح البخاري"، فالجمهور على أن ما أتى
فيه البخاري بصيغة الجزم دل على أنه ثبت إسناده عنده، وإنما حذف ذلك لغرض
من الأغراض المتقدمة، وما أتى فيه بصيغة غير جازمة ففيه مقال؛
فقد يعلق البخاري حديثاً بصيغة الجزم، وهو ما يذكره في موضع آخر مسنداً،
وقد لا يذكره أبداً، وهو على شرطه، وقد يعلق بالجزم، وهو ليس على شرطه،
ولكنه صحيح عند غيره، وقد يعلق بالجزم إلا أنه يضعف بسبب الانقطاع فيه، ومن
المعلق بصيغة التمريض ما قد يصح إسناده، ولا يكون على شرطه، فتجده عند
مسلم أو أصحاب السنن، ومن المعلق بصيغة التمريض ما قد يكون حسناً، وقد يكون
ضعيفاً منجبراً بأمر آخر، وقد يكون ضعيفاً ولا يرتقي ولا ينجبر.
أمثلة على المعلقات التي أوردها البخاري بصيغة الجزم
قال البخاري في كتاب الوكالة:قالعثمان
بن الهيثم: حدثنا عوف، حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة رمضان..الحديث بطوله،
وأورده في مواضع أخرى، ولم يقل في موضع منها: حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه، وقد استعمل المصنف هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة: قال فلان، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبينهم.
مثال آخر: قال في كتاب الطهارة:وقالت عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) وهو حديث صحيح على شرط مسلم. مثال آخر: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: (الله أحق أن يستحيا منه من الناس) وهو حديث حسن مشهور عن بهز؛ أخرجه أصحاب السنن.
المعلقات التي أوردها البخاري بصيغة التمريض
ما
أورده الإمام البخاري من المعلقات التي على صيغة التمريض هي أحاديث لا
تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لأنها ليست على شرط الصحيح، ولذلك لا
يؤخذ حكم الصحة للحديث من هذا الموضع، فإن بعض هذه الأحاديث ما هو صحيح،
وبعضها ليس كذلك. فالأحاديث التي على صيغة التمريض لا يستفاد منها الصحة،
إنما تعرف صحتها من مواضع أخرى في صحيحه، وهناك أحاديث أوردها الإمام
البخاري معلقة، وحكم عليها العلماء بالضعف، بسبب الانقطاع، لكنه منجبر بأمر
آخر، وقد وصل هذه المعلقات الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق"
وكذلك فعل غيره من العلماء، وبينوا القسم الصحيح منها، والقسم الذي فيه
انقطاع. ومن الأمثلة على الأحاديث التي أوردها بصيغة التمريض قوله في كتاب
الزكاة: وقال طاوس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس. فإسناده إلى طاوس صحيح إلا أن طاوساً لم يسمع من معاذ. ومن الأمثلة كذلك ما ذكره في كتاب الطب،
قال: (ويُذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرقى بفاتحة
الكتاب) فإنه أسنده في موضع آخر. وأما ما لم يورده في موضع آخر مما أورده
بهذه الصيغة، فمنه ما هو صحيح، إلا أنه ليس على شرطه، ومنه ما هو حسن، ومنه
ما هو ضعيف.
فما
جاء بصيغة التمريض عند البخاري فهو مشعر بضعفه عنده إلى من علقه عنه، لكن
ربما كان ذلك الضعف خفيفاً حتى ربما صححه غيره، إما لعدم اطلاعه على علته،
أو لأن تلك العلة لا تعد عند هذا المصحح قادحة، وهذا حكم جميع ما في الكتاب
من التعاليق، إلا إذا ما علقه عن شيوخه الذين سمع منهم، فقد ذكر ابن
الصلاح أن حكم (قال) حكم (عن) وأن ذلك محمول على الاتصال، ثم اختلف كلامه
في موضع آخر، فمثل التعاليق التي في البخاري بأمثلة، ذكر منها شيوخ البخاري
كالقعنبي، والمختار أن حكمه مثل غيره من التعاليق، فإنه وإن قلنا: يفيد
الصحة لجزمه به، فقد يحتمل أنه لم يسمعه من شيخه الذي علّق عنه بدليل أنه
علق عدة أحاديث عن شيوخه الذين سمع منهم، ثم أسندها في موضع آخر من كتابه
بواسطة بينه وبين من علّق عنه.
فالقول: إن جميع ما في "صحيح البخاري" صحيح،
المقصود به هو المرفوعات، أما الموقوفات فإنه يجزم بصحته ما صح عنده، ولو
لم يكن على شرطه، ولا يجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع إلا حيث يكون
منجبراً؛ إما بمجيئه من وجه آخر، وإما بشهرته عمن قاله. وإنما يورد ما يورد
من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات؛
بغرض الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها خلاف
بين الأئمة.
وقد
أفرد الحافظ ابن حجر كتاباً في التعاليق التي تضمنها "صحيح البخاري" سماه
(تغليق التعليق) ذكر فيه جميع أحاديثه المرفوعة وآثاره الموقوفة، وذكر من
وصلها بأسانيده إلى المكان المعلق، فجاء كتاباً حافلاً وجامعاً، لم يفرده
أحد بالتصنيف. وقد خُطئ ابن حزم الظاهري في رده حديث أبي مالك الأشعري في
المعازف؛ لقول البخاري فيه: قال هشام بن عمار: وساق السند، وزعم ابن حزم أنه منقطع بين البخاري وهشام، والحديث معروف الاتصال بشرط الصحيح.