كِتَاب الرِّقَاقِ
المجلس
الأول 16 صفر 1437هـ
الباب
الأول
الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ وَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ
الْآخِرَةِ
********
6049
قالَ الإمام البُخاريُّ ــ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ــ فِي "صحيحه" حَدَّثَنَا
الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ
أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَتَانِ
مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ قَالَ
عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ .
الشرح
قَالَ
مُغْلَطَايْ : عَبَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِهِمْ بِالرَّقَائِقِ
قُلْتُ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالنَّسَائِيُّ فِي " الْكُبْرَى "
وَرِوَايَتُهُ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ عَنِ
الْبُخَارِيِّ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَالرِّقَاقُ وَالرَّقَائِقُ جَمْعُ رَقِيقَةٍ
وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَا يُحْدِثُ
فِي الْقَلْبِ رِقَّةً قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الرِّقَّةُ الرَّحْمَةُ وَضِدُّ الْغِلَظِ
وَيُقَالُ لِلْكَثِيرِ الْحَيَاءِ رَقَّ وَجْهُهُ اسْتِحْيَاءً وَقَالَ الرَّاغِبُ
: مَتَى كَانَتِ الرِّقَّةُ فِي جِسْمٍ فَضِدُّهَا الصَّفَاقَةُ كَثَوْبٍ رَقِيقٍ وَثَوْبٍ
صَفِيقٍ وَمَتَى كَانَتْ فِي نَفْسٍ فَضِدُّهَا الْقَسْوَةُ كَرَقِيقِ الْقَلْبِ وَقَاسِي
الْقَلْبِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَتَرْقِيقُ الْكَلَامِ تَحْسِينُهُ .
قالَ
الحافظ ابْن حجرٍ العسقلانيُّ ــ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ــ في كتابه "فتح الباري":
قوله: « نعمتان » تثنية نعمة، وهي الحالة الحسنة، وقيلَ: هيَ المنفعة المفعولة علىٰ
جهة الإحسان للغير، و« الغبن » بالسُّكون وبالتَّحريك.
وقالَ
الجوهريُّ: هوَ فِي البيع بالسُّكون، وفي الرَّأي بالتَّحريك، وعلىٰ هـٰذا فيصحُّ كلٌّ
منهما فِي هـٰذا الخبر، فإنَّ مَنْ لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبنَ لكونه باعهما
ببخس؛ ولم يحمد رأيه فِي ذٰلك.
قالَ
ابن بطَّال: معنى الحديث: أنَّ المرء لا يكونُ فارغًا حتَّىٰ يكونُ مكفيًّا صحيح البدن،
فمَنْ حصلَ لهُ ذٰلك فليحرص علىٰ أنْ لا يغبن بأنْ يترك شكر الله علىٰ ما أنعم به عليه،
ومِنْ شُكره: اِمْتثال أوامره، واجْتناب نواهيه، فمَنْ فرطَ فِي ذٰلك فهوَ المغبون.
وأشارَ
بقوله: « كثير مِنَ النَّاس » إلىٰ أنَّ الَّذي يوفِّق لذٰلك قليل.
وقالَ
ابن الجوزيُّ: قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا
ولا يكون صحيحًا، فإذا اِجتمعا فغلب عليه الكسل عَنِ الطَّاعة فهوَ المغبون، وتمامُ
ذٰلكَ أنَّ الدُّنيا مزرعة الآخرة، وفيها التِّجارة الَّتي يظهر ربحها فِي الآخرة،
° فمَنْ
اِسْتعمل فراغه وصحَّته فِي طاعة الله فهوَ المغبوطُ.
° ومَنْ
اِسْتعملهما فِي معصية الله فهوَ المغبونُ.
لأنَّ
الفراغ يعقبه الشُّغل، والصِّحة يعقبها السُّقم، ولو لم يكن إلَّا الهرم، كما قيلَ:
يَسُرّ الْفَتَى
طُول السَّلامَة وَالبَقَا °°° فكيف تَرَىٰ طُول السَّلامة يَفْعَل
يَرُدّ الْفَتَى
بَعْد اِعْتدَال وَصِحَّة °°° يَنُوء إِذَا رَامَ الْقِيَام وَيُحْمَل
وقالَ
الطّيّبيُّ: ضربَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُكلَّف
مثلاً بالتَّاجر الَّذي لهُ رأس مال، فهو يبتغي الرِّبح معَ سلامة رأس المال، فطريقه
فِي ذٰلك أنْ يتحرَّىٰ فيمَنْ يُعامله ويلزم الصِّدق والحذق لئلَّا يغبن، فالصِّحة
والفراغ رأس المال، وينبغي لهُ أنْ يُعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النَّفس وعدوِّ الدِّين،
ليربح خيري الدُّنيا والآخرة، وقريب منه قول الله تعالىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الآيات.
وعليه أنْ يجتنب مُطاوعة النَّفس، ومُعاملة الشَّيطان لئلَّا يضيع رأس ماله مع الرِّبح.
وقوله
في الحديث: « مغبون فيهما كثير مِنَ النَّاس »، كقوله تعالىٰ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ﴾. فالكثير فِي الحديث فِي مقابلة القليل فِي الآية.
وقالَ
القاضي وأبو بكر بن العربي: اِختُلف فِي أوَّل نعمة اللهِ على
العبد، فقيلَ: الإيمان. وقيلَ: الحياة. وقيلَ: الصِّحة.
والأوَّل
أولىٰ، فإنَّهُ نعمةٌ مُطلقةٌ، وأمَّا الحياة والصِّحة فإنَّهما نعمةٌ دنيويَّةٌ، ولا
تكون نعمةً حقيقةً إلَّا إذا صاحبت الإيمان، وحينئذٍ يغبن فيها كثير مِنَ النَّاس،
أي: يذهب ربحهم أو ينقص، فمَنْ اِسْترسلَ معَ نفسه الأمارَّة بالسُّوء؛ الخالدة إلى
الرَّاحة، فتركَ المحافظة على الحُدود، والمواظبة على الطَّاعة، فقد غبن، وكذٰلك إذا
كانَ فارغًا فإنَّ المشغول قد يكونُ لهُ معذرة بخلاف الفارغ فإنَّهُ يرتفع عنه المعذرة
وتقوم عليه الحجَّة.اهـ.
([ «
فتح الباري شرح "صحيح البُخاريِّ" »
/ (11 / 230، 231) / "كِتَاب الرِّقَاقِ" (81)
/"بَاب
ما جاءَ فِي الرِّقاق وأن لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَةِ" ])
شرح
الشيخ بن عثيمين رحمه الله
والرقاق ما يرقق القلب ويلينه ذلك
أن القلب قد يقسو بالمعاصي وكثرة الذنوب فيحتاج إلى شيء يرققه ، النصوص التي توجب رقة
القلب يسميها أهل العلم: الرقاق ، لأنها ترقق القلب وتلينه.
صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام إن هاتين النعمتين لمغبون
فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ، فإن كثير من الناس قد أضاعهما !! كثير من الناس
تمضي عليه أيام طويلة وهو صحيح البدن فارغ وتضيع عليه ، وهذا غُبن بلا شك ، ولا يعرف
هذا الغبن إلا إذا مرض يقول: كيف لم أفعل كذا في أيام الصحة ؟ كيف ذهبت الأيام ويتبين
له الغبن ؟ وكذا الفراغ فرزقه يأتيه على عتبة بابه لا يحتاج إلى طلبه ، ثم إذا به ينشغل
في طلب الرزق أو في غيره فحينئذٍ يذكر أنه مغبون في ما سبق حيث لم يعمل في فراغه ،
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( مغبون فيهما كثير من الناس ) وأفاد الحديث أن من
الناس من لا يُغبن فيهم ، وهؤلاء هم أهل الحزم والعزم الذين يقدرون الأمور ، ويعرفون
أن الوقت أسرع مما يتصورون ، فكم من إنسان يستبطئ الأجل فإذا به قد حل ، وكم من إنسان
يستبطئ زوال النعمة فإذا بها قد زالت ، ويكون صحيح البدن فيقول متى أعجز عن العمل ؟
فإذا هو به يُصاب بآفة تمنعه من العمل ، وهكذا الدنيا لا تأمنها .... لذلك يجب على
الإنسان أن يكون حازماً ، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( خذ من صحتك لمرضك ومن حياتك
لموتك ) (1).
(1) أخَذ رسولُ
اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَنكِبي فقال : ( كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ
سبيلٍ ) . وكان ابنُ عُمرَ يقولُ : إذا أمسيْتَ فلا تنتَظِرِ الصباحَ، وإذا أصبحْتَ
فلا تنتظِرِ المساءَ، وخُذْ من صحتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك .
الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح
البخاري برقم: 6416 .