المجلس الرابع عشر
26 جماد الأول 1437هـ
تابع بَاب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا
قال الإمام البخاري في صحيحه
6061
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ
بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ
عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ
يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ
فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ
فَوَافَتْهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ
وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا
مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ
أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا
كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ.
شرح الشيخ بن عثيمين رحمه الله
هذه
الأحاديث ذكرها المؤلف رحمه الله في باب الزهد في الدنيا والترغيب فيه، وقد ذكر قبل
ذلك آيات متعددة كلها تدل على أن هذه الدنيا ليست بشيء بالنسبة للآخرة، وأنها ممر ومزرعة
للآخرة، فإن قال قائل: يقال ورع، ويُقال زهد، فأيهما أعلى؟ وما الفرق بينهما؟
فالجواب
أن الزهد أعلى من الورع، والفرق بينهما أن الورع ترك ما يضر، والزهد ترك ما لا ينفع،
فالأشياء ثلاثة أقسام: منها ما يضر في الآخرة، ومنها ما ينفع، ومنها ما لا يضر ولا
ينفع.
فالورع:
أن يدع الإنسان ما يضره في الآخرة، يعني أن يترك الحرام.
والزهد:
أن يدع ما لا ينفعه في الآخرة، فالذي لا ينفعه لا يأخذ به، والذي ينفعه يأخذ به، والذي
يضره لا يأخذ به من باب أولى، فكان الزهد أعلى حالاً من الورع، فكل زاهد ورع، وليس
كل ورع زاهداً.
ولكن
حذر النبي عليه الصلاة والسلام من أن تفتح الدنيا علينا كما فتحت على من كان قبلنا
فنهلك كما هلكوا.
لما
قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، وسمع الأنصار بذلك، جاءووا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فوافوه في صلاة الفجر ، فلما انصرف من الصلاة تعرضوا له فتبسم عليه الصلاة والسلام،
يعني ضحك، لكن بدون صوت، تبسم لأنهم جاءوا متشوفين للمال.
فقال
لهم :" لعلكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة من البحرين؟" قالوا: أجل يا رسول الله
. سمعنا بذلك يعني وجئنا لننال نصيبنا.
فقال
عليه الصلاة والسلام: "ما الفقر أخشى عليكم" الفقر لا أخشاه .
والفقر
قد يكون خيراً للإنسان، كما جاء في الحديث القدسي الذي يروى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أن الله قال:" إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى"، يعني : أطغاه
وأضله وصده عن الآخرة والعياذ بالله ففسد،" وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده
الفقر".
فقال
النبي عليه الصلاة والسلام: "ما الفقر أخشى عليكم" يعني: لا أخشى عليكم من
الفقر؛ لأن الفقير في الغالب أقرب إلى الحق من الغني.
وانظروا
إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ من الذي يكذبهم؟ يكذبهم الملأ الأشرار الأغنياء، وأكثر
من يتبعهم الفقراء، حتى النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من يتبعه الفقراء.
فالفقر
لا يخشى منه ، بل الذي يخشى منه أن تبسط الدنيا عليهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"
أخشى أن تبسط عليكم - يعني كما بسطت على من كانوا قبلنا، فتهلككم كما أهلكتهم".
وهذا
هو الواقع، وأنظر إلى حالنا نحن هنا- يعني في المملكة- لما كان الناس إلى الفقر أقرب،
كانوا لله أتقى وأخشع وأخشى، ولما كَثُر المال؛ كثُر الإعراض عن سبيل الله ، وحصل الطغيان،
وصار الإنسان الآن يتشوف لزهرة الدنيا وزينتها... سيارة ، بيت، فرش، لباس، يباهي الناس
بهذا كله، ويعرض عما ينفعه في الآخرة.
وصارت
الجرائد والصحف وما أشبهها لا تتكلم إلا بالرفاهية وما يتعلق بالدنيا، وأعرضوا عن الآخرة،
وفسد الناس إلا من شاء الله.
فالحاصل
أن الدنيا إذا فتحت- نسأل الله أن يقنا وإياكم شرها - أنها تجلب شرًّاً وتطغي الإنسان (كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى)
(أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7،6).
وقد
قال فرعون لقومه : (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِي) (الزخرف:51) ، افتخر بالدنيا ، فالدنيا خطيرة جداً.
وفي
هذه الأحاديث أيضاً قال النبي عليه الصلاة والسلام:" إن الدنيا حلوة خضرة"
حلوة المذاق، خضرة المنظر، تجذب وتفتن، فالشيء إذا كان حلواً ومنظره طيباً فإنه يفتن
الإنسان، فالدنيا هكذا حلوة خضرة حلوة في المذاق،
خضرة في المنظر.
ولكن:
" وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" يعني جعلكم خلائف فيها؛ يخلف
بعضكم بعضاً، ويرث بعضكم بعضاً." فينظر كيف تعملون" هل تقدمون الدنيا أو
الآخرة ؟، ولهذا قال: " فاتقوا الدنيا واتقوا النساء".
ولكن
إذا أغنى الله الإنسان ، وصار غناه عوناً له على طاعة الله ، ينفق ماله في الحق؟، وفي
سبيل الله؛ صارت الدنيا خيراً.
ولهذا
كان رجل الدنيا الذي ينفق ماله في سبيل الله، وفي مرضاة الله عز وجلّ، صار ثاني اثنين
بالنسبة للعالم الذي آتاه الله الحكمة والعلم وصار يعلم الناس.(1)
فهناك
فرق بي الذين ينهمك في الدنيا ويعرض عن الآخرة، وبين الذي يغنيه الله، ويكون غناه سبباً
للسعادة والإنفاق في سبيل الله ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة: 201)
من شرح رياض الصالحين للشيخ بن عثيمين رحمه الله باب فضل الزهد في الدنياوالحث
على التقلل منها، وفضل الفقر
الحديث رقم 6062
قال الإمام البخاري رحمه الله
6062 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ
أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ
وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ
خَزَائِنِ الْأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ
أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا.
والمقصود بصلاته عليهم صلاة
الميت : أي دعاؤه لهم بالدعاء الذي يقال في صلاة الجنازة ، وقد كان هذا بعد سبع سنين
من استشهادهم رضي الله عنهم .
وليس في الحديث نفي وقوع الشرك
في هذه الأمة ، بل فيه أنه لا يخاف على جميع الأمة ، بدليل أنه وقع من بعضهم ، كما
دلت نصوص أخرى على علمه وإخباره صلى الله عليه وسلم بأن بعض أمته يقع في الشرك .
قال النووي رحمه الله في شرح
مسلم : " وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه سلم ؛ فإن معناه الإخبار
بأن أمته تملك خزائن الأرض وقد وقع ذلك ، وأنها لا ترتد جملة وقد عصمها الله تعالى
من ذلك ، وأنها تتنافس في الدنيا وقد وقع كل ذلك " انتهى .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني
رحمه الله : " قوله : ( ما أخاف عليكم أن تشركوا ) أي على مجموعكم لأن ذلك قد
وقع من البعض أعاذنا الله تعالى ، وفي هذا الحديث معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم
، ولذلك أورده المصنف في علامات النبوة " انتهى من "فتح الباري"
(3/ 211).
ثانيا : قد دلت السنة الصحيحة على
أن من هذه الأمة من يشرك بالله تعالى :
1- روى البخاري (7116) ومسلم
(2906) عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ
نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ ) وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي
كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
2- وروى مسلم (2907) عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
: ( لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى . فَقُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ : ( هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا ؟ قَالَ إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ
ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ
مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، فَيَبْقَى مَنْ لَا
خَيْرَ فِيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ ).
فتبين بهذا أن بعض المسلمين
سوف يقع في الشرك والردة ، من دون أن يعم ذلك جميع الأمة ؛ فإنها معصومة من أن تجتمع
على ضلالة .
وكيف يشك مسلم في أن دعاء
الأموات ، والتضرع إليهم في الملمات ، وسؤالهم تفريج الكربات ، من الشرك ؟! بل هذا
عين ما كان يفعله المشركون الأوائل طلبا للقربى أو الشفاعة عند الله ، كما قال تعالى
: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) الزمر/3 .
*&*&*&*&*&*&*&*&*&*&*&*&*
(1) إنما الدنيا لأربعةِ نفرٍ ؛ عبدٌ رزقَه
اللهُ مالًا و علمًا فهو يتَّقي فيه ربَّه ، و يصِلُ فيه رَحِمَه ، و يعلمُ للهِ فيه
حقًّا ، فهذا بأفضلِ المنازلِ ، و عبدٌ رزقَه اللهُ علمًا ، و لم يرزقْه مالًا ، فهو
صادقُ النَّيَّةِ ، يقولُ : لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعملِ فلانٍ ، فهو بنِيَّتِه ،
فأجرُهما سواءٌ و عبدٌ رزقَه اللهُ مالًا ، و لم يرزقْه عِلمًا يخبِطُ في مالِه بغيرِ
علمٍ ، و لا يتَّقي فيه ربَّه ، و لا يصِلُ فيه رَحِمَه ، و لا يعلمُ للهِ فيه حقًّا
، فهذا بأخبثِ المنازلِ ، و عبدٌ لم يرزقْه اللهُ مالًا و لا علمًا فهو يقولُ : لو
أنَّ لي مالًا لعملتُ فيه بعملِ فلانٍ ، فهو بنيَّتِه ، فوزرُهما سواءٌ ) مثلَ هذه
الأمةِ كمثلِ أربعةِ نفرٍ : رجلٌ آتاه اللهُ مالًا و علمًا فهو يعملُ بعلمِه في مالِه
؛ ينفقُه في حقِّه ، و رجلٌ آتاه اللهُ علمًا و لم يُؤْتِه مالًا و هو يقول : لو كان
لي مثلُ هذا عملتُ فيه بمثلِ الذي يعملُ فهما في الأجر سواءٌ ، و رجلٌ آتاه اللهُ مالًا
و لم يُؤتِه علمًا فهو يخبطُ في مالِه ينفقُه في غيرِ حقِّه ، و رجلٌ لم يؤْتِه اللهُ
مالًا و لا علمًا ، و هو يقولُ : لو كان لي مثلُ هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعمل قال
رسولُ اللهِ : فهما في الوزرِ سواءٌ
الراوي:
أبو كبشة الأنماري المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 16
خلاصة حكم المحدث: صحيح لغيره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق