من أطال الأمـل أساء العمل |
|
فطر
الإنسان على حب الدنيا، والتعلق بها، والرغبة في الازدياد منها، وهو ما
يعرف
بالأمل، قال القرطبي: «الأمل الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحب لها، والإعراض عن الآخرة».وقال ابن حجر: «الأمل بفتحتين رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني».
ولاشك
أن الأمل ضروري للإنسان ليقدم له الحافز للعمل والدافع للإنجاز، إلا أن
المذموم هو الانشغال به عن الآخرة كما قال ابن حجر: «وفي الأمل سر لطيف؛ لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته له».
وقد جاءت النصوص
الشرعية تحذر من طول الأمل وتدعو إلى الاستعداد ليوم المعاد،
فقد قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(الحجر :3)
قال الطبري:
«يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ذر يا محمد
هؤلاء المشركين يأكلوا في هذه الدنيا ما هم آكلوه، ويتمتعوا من لذاتها وشهواتهم فيها إلى أجلهم الذي أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ بحظهم من طاعة الله فيها، وتزودهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم، فسوف يعلمون غدا إذا وردوا عليه، وقد هلكوا على كفرهم بالله وشركهم حين يعاينون عذاب الله أنهم كانوا من تمتعهم بما كانوا يتمتعون فيها من اللذات والشهوات كانوا في خسار وتباب».
وقال ابن حجر: «قال الجمهور: هي عامة، وقال جماعة: هي في الكفار خاصة،
والأمر فيه للتهديد وفيه زجر عن الانهماك في ملاذ الدنيا».
وقال ابن سعدي:
«{وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أي: يؤملون البقاء في الدنيا فيلهيهم عن
الآخرة،
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أن ما هم عليه باطل، وأن أعمالهم ذهبت خسرانا عليهم، ولا يغتروا بإمهال الله تعالى، فإن هذه سنته في الأمم».
وقال صلى الله عليه وسلم : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها
بالبخل والأمل». رواه الإمام أحمد وحسنه الشيخ الألباني.
يوضح المناوي مناسبة
صلاح أول الأمة بالزهد واليقين فيقول: «إذ بهما يصير
العبد شاكرا مفوضا مسلما متوكلا، ويهلك آخرها بالبخل والأمل؛ فإنهما لا يكونان إلا ممن فقد يقينه، وساء ظنه بربه فبخل، وتلذذ بالشهوات، وطال أمله، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا».
وطول الأمل شيء فطري في قلب الإنسان، يكبر معه ولا ينفك عنه، كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : «لا يزال قلب الكبير شابّاً في اثنتين: في حبّ الدّنيا وطول الأمل». رواه البخاري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان؛ حب المال، وطول العمر» متفق عليه واللفظ للبخاري.
قال ابن حجر: «قوله:
«لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين في حب الدنيا وطول
الأمل». المراد بالأمل هنا (محبة طول العمر) فسره حديث أنس الذي بعده، وسماه شابا إشارة إلى قوة استحكام حبه للمال أو هو من باب المشاكلة والمطابقة».
قَالَ النَّوَوِيّ:
«وَمَعْنَاه: أَنَّ قَلْب الشَّيْخ كَامِل الْحُبّ لِلْمَالِ مُتَحَكِّم
فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّة
الشَّابّ فِي شَبَابه» .
وَقَالَ غَيْره:
الْحِكْمَة فِي التَّخْصِيص بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ أَحَبّ
الْأَشْيَاء إِلَى اِبْن آدَم
نَفْسه, فَهُوَ رَاغِب فِي بَقَائِهَا فَأَحَبَّ لِذَلِكَ طُول الْعُمْر, وَأَحَبَّ الْمَال؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَم الْأَسْبَاب فِي دَوَام الصِّحَّة الَّتِي يَنْشَأ عَنْهَا غَالِبًا طُول الْعُمْر, فَكُلَّمَا أَحَسَّ بِقُرْبِ نَفَاد ذَلِكَ اِشْتَدَّ حُبّه لَهُ وَرَغْبَته فِي دَوَامه .
وفي كثير من
الأحيان يكون أمل الإنسان طويلا، وأحلامه بعيدة دون أن يدري
أن أجله أقصر من ذلك بكثير، فعن عبدالله رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: «هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار (الأعراض) فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا».أخرجه البخاري
وفي الحديث إشارة إلى الحض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل .
ولطول الأمل آثار
خطيرة منها: قسوة القلب والغفلة كما
قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد: 16).
قال ابن عاشور:
«والتحذير منصب إلى ما حدث لأهل الكتاب من قسوة القلوب
بعد طول الأمد عليهم في مزاولة دينهم، أي: فليحذر الذين آمنوا من أن يكونوا مثلهم على حدثان عهدهم بالدين، وليس المقصود عذر الذين أوتوا الكتاب بطول الأمد عليهم؛ لأن طول الأمد لا يكون سببا في التفريط فيما أطال فيه الأمد بل الأمر بالعكس، ولا قصد تهوين حصوله للذين آمنوا بعد أن يطول الأمد؛ لأن ذلك لا يتعلق به الغرض قبل طول الأمد، وإنما المقصود النهي عن التشبيه بالذين أوتوا الكتاب في عدم خشوع قلوبهم، لكنه يفيد تحذير المؤمنين بعد أن يطول الزمان من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب».
وقال أبو موسى الأشعري: «لا يطولنَّ عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب
من كان قبلكم». رواه مسلم
وقال علي: «إن أخوف
ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى
فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة». وقال أيضا: «من أطال الأمل أساء العمل».
وقال ابن حجر:
«ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة،
والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب; لأن وقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى: {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم}، وقيل: «من قصر أمله قل همه وتنور قلبه; لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة وقل همه ورضي بالقليل».
ويبين الغزالي أن طول
الأمل له سببان؛ أحدهما: الجهل، والآخر: حب الدنيا،
وبين علاجهما فقال: «أما الجهل فيدفع بالفكر الصافي والحكمة البالغة، وأما حب الدنيا فلا علاج له إلا بالإيمان باليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا».
ونختم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناءك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك». أخرجه الحاكم. |
|
الأحد، 31 يناير 2016
من أطال الأمـل أساء العمل
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق