ضوابط العبادة الصحيحة
صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأمرنا بالتمسك به إلى الممات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وتلك وصية إبراهيم ويعقوب لبنيه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. خلق الله الجن والإنس لعبادته كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وفي ذلك شرفهم وعزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لأنهم بحاجة إلى ربهم، ولا غنى لهم عنه طرفة عين، وهو غني عنهم وعن عبادتهم كما قال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ} [الزمر:7]، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8].
والعبادة هي: التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، وهي حق الله على خلقه وفائدتها تعود إليهم، فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد، ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة، ولا يمكنهم أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضي الله سبحانه وتوافق دينه لم يكلهم إلى أنفسهم، بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب لبيان حقيقة تلك العبادة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله، وعبَدَ الله بما يملي عليه ذوقه، وما تهواه نفسه وما زينته له شياطين الإنسِ والجن، فلقد ضل عن سبيل الله ولم تكن عبادته في الحقيقة عبادةً لله بل هي عبادة لهواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص:50]. وهذا الجنس كثير في البشر وفي طليعتهم النصارى ومن ضل من فِرق هذه الأمة، فإنهم اختطوا لأنفسهم خطة في العبادة مخالفة لما شرعه الله في كثير من شعاراتهم، وهذا يتضح ببيان حقيقة العبادة التي شرعها الله على لسان رسول الله ليتبين أن كل ما خالفها فهو باطل، وإن زعم من أتى به أنه يقربه إلى الله فهو يبعده عن الله.
إن العبادة التي شرعها الله سبحانه وتعالى تنبني على أصول وأسس ثابته تتلخص فيما يلي:
أولاً: أنها توقيفية بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها بل لا بد أن يكون المشرع لها هو الله سبحانه وتعالى أو رسول الله، كما قال تعالى لنبيه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا} [هود:112]، وقال تعالى: {ثُمّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَريعَةٍ مِنَ الأمرِ فاتّبِعها ولا تَتّبعِ أهَواءَ الذينَ لا يَعلمُون} [الجاثية:18]. وقال عن نبيه: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50].
ثانياً: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله تعالى من شوائب الشرك، كما قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]. فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها، كما قال تعالى: {وَلَو أشرَكُوا لَحَبِط عَنهُم مَا كانُوا يَعَملُون} [الأنعام:88]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66-65].
ثالثاً: لا بد أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:20]، وقال تعالى: {ومَاءَ اتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُم عَنهُ فانَتّهُوا} [الحشر:7]. وقال النبي: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (مسلم:1718)، وقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (صحيح الجامع:893)، وقوله: «خذوا عني مناسككم» (صحيح الجامع:7882) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الاقتداء برسول الله دون سواه.
رابعاً: أن العبادة محدودة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها وتجاوزها كالصلاة مثلاً، قال تعالى: {إن الصّلاةَ كانَتَ على المُؤمِنِينَ كِتاباً مَوقُوتاً} [النساء:103]. وكالحج، قال تعالى: {الحَجُ أشهُرٌ مَعلومَاتٌ} [البقرة: 197]. وكالصوم، قال تعالى: {شَهرُ رمَضَانَ الّذي أنزلَ فيهِ القُرءَانُ هُدًى للنّاسِ وبَيناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان فَمنَ شَهدَ مِنكُمُ الشَهرَ فليَصُمهُ} [البقرة:185]. فلا تصح هذه العبادات في غير مواقيتها.
خامساً: لا بد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله تعالى والذل له، وخوفه ورجائه، قال تعالى: {أولئِكَ الّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إلى رَبِهِمُ الوَسِيلَةَ أيّهُم أقرَبُ وَيَرجُونَ رَحمَتَهُ ويًخافُونَ عَذابَهُ} [الإسراء:57]. وقال تعالى عن أنبيائه: {إنّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيَراتِ ويَدَعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وكانُوا لنا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32-31]. فذكر سبحانه علامات محبة الله وثمراتها، أما علاماتها: فإتباع الرسول وطاعة الله وطاعة الرسول، أما ثمراتها: فنيل محبة الله سبحانه ومغفرة الذنوب، والرحمة منه سبحانه وتعالى.
سادساً: أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلاً إلى وفاته، قال تعالى: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وقال: {واعَبدَ ربَكَ حتَى يأتِيك الَيقِين} [الحجر:99]. والعبادة لها أنواع كثيرة فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج من أعظم أنواع العبادة وهي أركان الإسلام، وكذلك الصفات الحميدة، والأخلاق الفاضلة هي من أنواع العبادة، كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين والمماليك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأعمال القلوب من حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، فالدين كله داخل في العبادة.
وأعظم أنواع العبادة أداء ما فرضه الله وتجنب ما حرمه الله تعالى، قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: «وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه» (مجموع الفتاوى:7/492). فأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله وصدق الرغبة فيما عند الله"، وذلك أن الله تعالى إنما افترض على عبده الفرائض ليقربهم عنده، ويوجد لهم رضوانه ورحمته، وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة كما قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه هو ساجد» (مسلم:482). وقال: «إن أحدَكم إذا قام في صلاتِه، فإنما يُناجي ربَّه» (البخاري: 417)، ولكن هذه الصلاة خف ميزانها اليوم عند كثير من الناس كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً . إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [مريم:60-59].
والعجب أن بعضهم يأتي ببعض النوافل أو كثير منها، وهو مضيع للصلاة فتراه يحج ويعتمر وهو مضيع للصلاة، ومنهم من يكثر من الصدقات والتبرعات وهو لا يؤدي الزكاة المفروضة، ومنهم من يحسن أخلاقه مع الناس وهو عاق لوالديه قاطع لرحمه، سيء الخلق مع زوجه، ولا شك أن العدل في الرعية من الفرائض الواجبة سواء كانت رعيته رعية عامة كالحاكم، أو رعية خاصة كالرجل مع أهل بيته، قال: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (البخاري: 893)، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» (مسلم:1827).
وأعظم رعاية الأهل والأولاد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإلزامهم بأداء الصلاة، ومنعهم من سماع الأغاني والمعازف والمزامير ومشاهدة الأفلام الخليعة والمسلسلات التي تحمل أفكاراً مسمومة أو تشغل عن طاعة الله وذكره، وبعض الآباء الذين هم أشباه الرجال وليسوا برجال يجلبون هذه الآفات إلى بيوتهم، ويتركونها تفتك في أخلاق أولادهم ونسائهم. إن عباد الله حقاً هم الذين يعمرون بيوتهم بطاعة الله، ويربون أولادهم ونساءهم على عبادة الله: {والذّينَ يَبِيتُونَ لِرَبّهِم سُجّداً وقَياماً . والذّينَ يَقُولُونَ رَبّنَا اصرِفَ عَنّا عَذَابَ جَهَنّمَ إن عَذابَها كَانَ غَرَاماً . إنّها سَاءَت مستَقَراً ومُقَاماَ} [الفرقان:64-66]. إن عباد الله هم الذين يدعون الله أن يصلح أزواجهم وذريتهم: {والذّينَ يَقُولُون رَبّنا هِبَ لنا مِن أزوَاجِنَا وذُرِيَاتنَا قُرّة أعيّن واجَعَلنَا للمُتَقِين إمَامَا} [الفرقان:74].
إن العبادة لا تنحصر في حد ضيق، ولكنها تشمل كل ما شرعه الله من الأقوال والأعمال والنيات فهي تشمل أقوال اللسان، وحركات الجوارح، ومقاصد القلوب، بل تشكل كل حياة المسلم حتى أكله وشربه ونومه، إذا نوى بذلك التقوي على طاعة الله، بل حتى معاشرته لزوجته إذا نوى بها التعفف عن الحرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (مسلم:1006).
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته صدقة فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعة صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» (مسلم:1009).
فاتقوا الله عباد الله واعبدوه كما أمركم؛ قال تعالى: {يَا أيها النَاسُ اعبُدُا ربّكُمُ الذي خَلقَكُم والذّينَ مِن قَبلِكُم لعلَكُم تَتّقٌونَ . الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرضَ فِراشاً والسَمَاءَ بِنَاءً وأنَزَلَ مِنَ السَمَاءِ مَاءً فأخَرجَ بِهِ مِنَ الثمَراتِ رِزقاً لَكُم فَلا تَجعَلُوا لِلهِ أندَاداً وأنتُم تَعلَمُونَ} [البقرة:22-21].
منقـــــول
طريق الإسلام