الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

حكم الحديث المعلق



حكم الحديث المعلق




الحديث المعلق هو ما حذف من بداية إسناده
 ( أي من جهة المحدث المصنف – صاحب الكتاب-) راو واحد فأكثر .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله "نزهة النظر" (108-109) :
" ومن صور المعلق :
أن يحذف جميع السند ، ويقال مثلا : قال رسول لله صلى الله عليه وسلم .
ومنها : أن يحذف كل السند ولا يبقى إلا اسم الصحابي أو اسم الصحابي والتابعي.
ومنها : أن يحذف من حدَّثَه ويضيفه إلى من فوقه " انتهى بتصرف .
ثانيا :
كل حديث يذكر في الكتب محذوف الإسناد ، ويرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، دون عزو إلى شيء من كتب السنة ، فهو حديث معلق ، فإن كان الحديث موصولا بالأسانيد في كتب السنة ، أو كان المصنف الذي علقه قد وصله في مكان آخر من كتبه ، فيظهر حينئذ أن تعليق من علقه إنما كان لأجل الاختصار ، ووصفه بالتعليق لا يعني الحكم عليه بالضعف ، وليس هو محل خلاف وبحث عند أهل العلم .
تجد ذلك كثيرا ظاهرا في صحيح الإمام البخاري :
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله "النكت" (1/325) :
" إن ضاق مخرج الحديث ولم يكن له إلا إسناد واحد ، واشتمل على أحكام واحتاج إلى تكريرها ، فإنه والحالة هذه إما أن يختصر المتن أو يختصر الإسناد " انتهى .
ويقول السيوطي في "تدريب الراوي" (1/117) :
" وأكثر ما في البخاري من ذلك موصول في موضع آخر من كتابه ، وإنما أورده معلقا اختصارا ومجانبة للتكرار " انتهى .
ثالثا :
للحكم على الحديث المعلق فإنه لا بد – كما هو الحال عند الحكم على أي حديث – من جمع طرق الحديث والبحث عن أسانيده ؛ ولا يخلو حكمه بعد ذلك من الحالات التالية :
1- إن لم نقف له على سند في أي كتاب : فحينئذ فالأصل الحكم بالضعف على الحديث ؛ وذلك للجهل بحال الرواة المحذوفين من السند ، فقد يكون منهم الضعيف أو الكذاب .
مثاله : ما علقه الحافظ ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مَا مِن مُسلِمٍ يَمُرُّ عَلَى قَبرِ أَخِيهِ كَانَ يَعرِفُهُ فِي الدُّنيَا ، فَيُسَلِّمُ عَلَيهِ ، إِلا رَدَّ اللَّهُ عَلَيهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيهِ السَّلامَ )
فقد بحث أهل العلم عن هذا الحديث المعلق فلم يجدوه مسندا في كتاب ، وكل من يذكره ينقله عن تعليق الحافظ ابن عبد البر ، فهو في الأصل حديث ضعيف ، إلا أن بعض أهل العلم صححه تبعا للحافظ ابن عبد البر الذي علقه وصححه .
2- إذا وجدنا للحديث سندا موصولا في كتاب آخر من كتب السنة ، فإننا حينئذ ننظر في السند ، ونحكم عليه بحسب قواعد أهل العلم في نقد الأحاديث ، كما أنه يمكن الاستعانة للحكم على الحديث المعلق بما فهمه العلماء من مناهج كتب السنة ، وهذا بيان ذلك :
رابعا :
لبعض الأئمة مناهج في ذكر الحديث المعلق ، وهذه المناهج إما أن ينص عليها الإمام نفسه ، أو يعرفها من بعده من أهل العلم من خلال دراسة كتابه واستقراء أحاديثه .
ومن كلام أهل العلم في منهج البخاري في التعليق ، نستطيع تقسيم معلقاته ( والتي تصل إلى مائة وستين حديثا معلقا ) إلى قسمين :
الأول : ما علقه بصيغة الجزم ، مثل قال ، رَوَى ونحو ذلك :
فحكم هذه المعلقات هو الصحة أو الحسن ، لأنه لا يستجيز أن يجزم بذلك إلا وقد صح عنده ، بل منها ما هو على شرطه وإنما علقه لأنه أخذه مذاكرة أو إجازة .
ويستثني العلماء من هذه القاعدة حديثا واحدا فقط ، وهو ما علقه في كتاب الزكاة (2/525) :
( وقال طاوس : قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثياب : خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة ، أهون عليكم ، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة )
قالوا : فهذا إسناده إلى طاوس صحيح ، إلا أن طاوسا لم يسمع من معاذ .
الثاني : ما علقه بصيغة التمريض : مثل : رُوِيَ ، يُذكَر ونحوها .
فهذا قد يكون فيه الصحيح ، وقد يكون فيه الحسن ، ويكون علقها لأنه رواها بالمعنى .
كما قد يكون فيه الضعيف ضعفا يسيرا : وقد يبين ضعفه بقوله عقبه : ( لم يصح ) .
( ملخصا من كتاب "النكت" للحافظ ابن حجر (1/325-343) ، "تدريب الراوي" للسيوطي (1/117-121)
أما صحيح مسلم :
فإن جميع ما فيه من المعلقات يصل فقط إلى خمسة أحاديث ، يرويها الإمام مسلم مسندة متصلة من طريق ، ثم يعلقها عقبه من طريق أخرى غير الطريق التي أسندها ، لغرض علمي يريده الإمام مسلم ، وقد جمعها الشيخ رشيد الدين العطار في رسالة مطبوعة ، وبين وصلها وأسانيدها الصحيحة .
وليس في صحيح مسلم – بعد المقدمة – حديث معلق لم يصله من طريق أخرى إلا حديث واحد : قال مسلم في حديث رقم (369) :
وروى الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبدالرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول : : أقبلت أنا وعبدالرحمن بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث ابن الصمة الأنصاري ، فقال أبو الجهم :
( أَقبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن نَحوِ بِئرِ جَمَلٍ ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ ، فَسَلَّمَ عَلَيهِ ، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَيهِ حَتَّى أَقبَلَ عَلَى الجِدَارِ ، فَمَسَحَ وَجهَهُ وَيَدَيهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيهِ السَّلامَ ) وانظر "النكت" للحافظ ابن حجر (1/346-353)
وقد وجد هذا الحديث مسندا متصلا من طريق الليث بن سعد أيضا عند البخاري في صحيحه (337) وأبو داود (329) وغيرهما .
والله أعلم .

الخميس، 10 نوفمبر 2016

بَاب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا.





بَاب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ 

وَتَخَلِّيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا.


من شرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري



الحديث الأول


قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه :-


حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ أَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ قَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُذْ فَأَعْطِهِمْ قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ اشْرَبْ فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ فَأَرِنِي فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ.

شرح الحديث


للشيخ / خالد السبت حفظه الله


أورد حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا قال: ( والله الذي لا إله إلا هو إنْ كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإنْ كنتُ لأشد الحجر على بطني من الجوع ) (1)، والنبي كما في غزوة الخندق رآه جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قد ربط على بطنه حجرين، كان الصحابة يربطون -رضي الله عنهم- حجرًا حجرًا، والنبي  قد ربط حجرين من شدة الجوع، وربْطُ الحجر على البطن بعض أهل العلم يقولون: إنه إذا خلا البطن فإن ذلك يضعف الإنسان عن المشي والحركة؛ وذلك أن ظهره إذا خلا بطنه يصعب معه المشي والحركة والقيام والقعود، فإذا شدّ على بطنه الحجر عندئذ يكون ذلك أدعى لنشاطه وقوته، وبعضهم يقول: إن ذلك من أجل أنه يخفف وطأة حرارة الجوع، إذا ربط على بطنه الحجر.

على كل حال، أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: (وإنْ كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر بي النبي ...) " قعدت على طريقهم ": أي لعلهم يعطونه شيئًا، وفي رواية أنه مر به أبو بكر وعمر قبل النبي  ، يقول: فمر بي النبي فتبسم حين رآني وعرف ما في وجهي، وما في نفسي، وهذا من كمال عفافه -رضي الله عنه- ألا يسأل، ولا يطلب مع شدة حاجته، يقول: ثم قال : ( أبا هِر)، قلت: لبيك يا رسول الله، " أبا هر" هو كنيته، يكنى بأبي هريرة -رضي الله عنه-، " لبيك " أي: إجابة لك بعد إجابة، قال: (الحقْ) ومضى، فاتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخلتُ فوجدنا لبنًا في قدح، فقال: ( من أين هذا اللبن؟ ) يقول لأهله، قالوا: أهداه لك فلان، أو فلانة، قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال:( الحق إلى أهل الصُّفة فادعهم لي )، وأهل الصُّفة يزيدون وينقصون، والصفة سقيفة كانت في آخر المسجد فيها أضياف الإسلام، أي: أنهم قوم فقراء، ليس لهم مأوى إلا هذه الصفة، للواحد منهم إزار، وليس له رداء، ليس عندهم شيء، تركوا كل شيء، وجاءوا لنصرة الله ورسوله

، فتارة يزيدون -يكثرون-، وتارة ينقصون، قال: ( فادعهم لي )، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأتون على أهل، ولا مال، ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، وذلك أن النبي كما هو معلوم- تحرم عليه الصدقة وعلى أهل بيته، فإذا جاءت صدقة بعث بها إليهم، وهذا لا يعارض ما جاء في بعض الروايات في بعض الأحاديث من أنه    كان يسأل فإذا قيل له: صدقة، أمر من حضره أن يأكلوا، ولا يأكل منه (2)، فهذا يمكن أن يحمل على أنه إذا كان بحضرته أحد فإنه يأمرهم بأكله، وإن لم يكن بحضرته أحد بعث به إلى أهل الصفة.

يقول: وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، يقول: وأنا في غاية الجوع، ويقول: ادع أهل الصفة، وأهل الصفة هؤلاء كثير، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا وأمرني فكنتُ أنا أعطيهم، يقول: هذا القدح من اللبن ماذا عسى أن يفعل وأنا في غاية الجوع؟ ولكن لابدّ من إجابة رسول الله ،
ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسول الله بدّ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، واستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: ( أبا هر) قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ( خذ فأعطهم ) قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الآخر، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح حتى انتهيت إلى النبي

 وقد رَوِي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، يعني: كأنه عرف أو وقع في نفسه ما يجول في قلب أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، وماذا عسى أن يفعل هذا القدح في أهل الصفة؟ فتبسم فقال: ( أبا هر) قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ( بقيت أنا وأنت ) وقد يؤخذ من هذا أن الذي يسقي القوم يكون في الآخر، وكذلك يؤخذ منه أن الرجل إذا كان لربما ليس هناك كلفة بينه وبين الرجل أنه يسوغ له أن يطلب منه مثل هذا، بمعنى أنه في بيته، فصار أبو هريرة هو الذي يقوم بأمر رسول الله بسقيهم هذا اللبن، ولا يكون ذلك معيبًا بأن الرجل يستخدم أضيافه، فإن أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- من المنزلة من رسول الله بحيث إنه لم يجد كلفة في أن يفعل ذلك، أو أن يأمره النبي ، فقد لزم النبيَّ على ما يشبع بطنه، فقط، يعني: هو ممن يتبع رسول الله ليأخذ عنه الحديث، ولذلك النبي طلب منه أن يسقي هؤلاء، فلا بأس إذا كان الرجل بهذه المثابة، بحيث يكون له من الصلة والعلاقة بالرجل ما لا يجد معه كلفة أو نحو ذلك أن يقوم بمساعدته أو بخدمة أضيافه، أو نحو ذلك، ولا يكون في ذلك غضاضة، لا على الأول ولا على الثاني.
والنبي أكمل الناس خلقًا، وأما ما قاله بعض المتقدمين في الحِكم أو قاله بعض السلف بأنه ليس من المروءة أن يستخدم الإنسان أضيافه فهذا إذا كان من الضيوف الذين طرءوا على الإنسان وأضافهم ونحو ذلك.

أما إذا كان الرجل بمنزلة منه، بحيث إنه يكثر الدخول عليه ومجالسته ونحو ذلك فإذا طرأ عليه آخرون فإن هذا كأنه من أهل الدار، فلا إشكال في هذا، أما أن يأتي الضيوف يرِدون على هذا الإنسان ويقول: قوموا، افعلوا كذا، قدموا الطعام، صبوا، افعلوا، فإن ذلك لا شك أنه يحرجهم، وأبو هريرة -رضي الله عنه- ليس بهذه المثابة.


وهذا فيه معجزة للنبي قدح من لبن شرب منه أهل الصفة جميعًا، وهم كثر، والنبي  له معجزات مشابهة، لما كان في غزوة تبوك ونفدت الأزواد واستأذنوه في أن ينحروا بعض الجزور، فجاءه عمر -رضي الله عنه- وذكر له ما ذكر من أن ذلك يفضي إلى نفاد الظهر، يعني: ما يكون لهم مراكب، فأشار عليه بأن يجمع أزوادهم، وأن يدعو، فجمعها النبي في بساط واحد ووضعت، هذا يأتي بشيء من تمر، وهذا يأتي بشيء من بر، حتى اجتمعت وهي شيء يسير قليل، فدعا الله -عز وجل- فكان ذلك سببًا لكثرتها وبركتها، حتى تزود منها القوم جميعًا، في غزوة تبوك جيش كامل أكثر من ألف مقاتل، بل أكثر من هذا، في غزوة تبوك أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل أخذوا من هذا البساط الصغير الذي فيه بقايا الأزواد (3).
وهكذا نبْعُ الماء بين أصابعه ، لمّا قلّ الماء وضع أصابعه
 فيقول الراوي: فكأني أرى الماء ينبع من بين أصابعه (4)
وهكذا في قصة الخندق لما كانوا يحفرون الخندق في غداة باردة، وجابر بن عبدالله -رضي الله عنه- رأى النبي قد ربط على بطنه حجرين، والصحابة قد ربطوا حجرًا حجرًا، فرجع إلى امرأته، وقال: لقد رأيت من رسول الله شيئًا لا أطيق الصبر معه، عندك شيء؟ قالت: عَناق وبُرمة، فذهب إلى النبي وقال: يا رسول الله،  تدعو معك رجلًا أو رجلين، فسأله النبي عن الطعام فأخبره، فدعا أهل الخندق جميعًا، فرجع جابر -رضي الله عنه- إلى امرأته وهو يقول: ويحك، ويحك، النبي دعا أهل الخندق، ماذا عسى يكفي هذا العَناق وهم في غاية الجوع؟، وهي امرأة حكيمة وعاقلة، فسألته هل سألك رسول الله
؟، قال: نعم، فعرفت أنها ستكون معجزة، فدخل النبي والبيت ما يكفيهم، فجعلوا يدخلون عشرة عشرة، والنبي هو الذي يخرج الطعام من التنور، فالشاهد أنهم أكلوا جميعًا حتى شبعوا، وبقي الطعام على حاله، بل أوفر ما كان، وأمرهم أن يأكلوا منه، وأن يعطوا من حولهم، قال: فإن الناس قد أصابتهم مجاعة (5) ، فعليه صلاة ربي وسلامه.
يقول: " فأخذ القدح على يده فنظر إليّ فتبسم"، فقال : (أبا هر) قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ( بقيت أنا وأنت ) قلت : صدقت يا رسول الله، قال: ( اقعد فاشرب ) وهذا هو الأدب أن يشرب الإنسان جالسًا، والنبي قال: لا يشرب أحدكم قائمًا (6).

ولما سأله الرجل، قال: أترضى أن تشرب معك الهرة ؟ قال: لا، قال : فإنه يشرب 

معك ما هو أعظم من ذلك، يعني : الشيطان.

وقال: لو يعلم الشارب قائمًا ما في بطنه لاستقاء، يعني: يخرج ما في بطنه.

يقول: ( اقعد، فاشرب ) فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت فما زال يقول: ( اشرب ) حتى قلت: " لا، والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا " هو في البداية كان خائفًا أن يُدعى أهل الصفة من أجل أن لا ينتهي هذا اللبن، والآن يقول: " لا أجد له مسلكًا "، وهذا يدل على أن الإنسان يجوز له أن يأكل أو يشرب ما يزيد على الثلث، النبي أخبر أنه ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس، لكن هذه حالات عارضة ليست هي العادة، أما الشبع الدائم فإنه لا شك مجلبة للأسقام وتعطيل للأفهام وهو عنوان البلادة وسبب لقسوة القلب، وقد سئل الإمام أحمد أيجد الرقة مع الشبع؟ قال: لا أراه، وكما قيل: البِطنة تُذهب الفطنة، وتسبب للإنسان خثورة النوم، ووهنه، والضعف والثقل عن العبادة، وعن معالي الأمور، وعن الجد والسعي في أمور الحياة الدنيا والآخرة.

الشاهد: فقال له: ( اشرب ) يقول حتى قلت: " لا، والذي بعثك بالحق لا أجد 

له مسلكًا ".
قال: ( فأرني ) فأعطيته، فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة، وهذا من تواضعه ، وهذا يدل أيضًا على أنه لا بأس أن يشرب الناس من قدح واحد، وهذا لا شك أنه أيضًا يدل على تواضع النبي من جهة أخرى؛ لكونه آخر من شرب، وهو أيضًا يشرب بعد هؤلاء جميعًا أهل الصفة، وهؤلاء قد لا يكونون بتلك المنزلة من تعاهد الثياب، هم فقراء، وهم في غاية الجوع، ويشربون من إناء واحد، والنبي يشرب بعدهم جميعًا، فهذا لكمال تواضعه ، ولو أن أحدًا كان بذلك المحل لربما قد يأنف أن يشرب مع الفقراء أو يشرب بعدهم، لكن النبي  كمل له ربه - تبارك وتعالى - الأخلاق، وكان مثالًا في التواضع لأصحابه .

هكذا كانت حياتهم، فنسأل الله -عز وجل- أن يلحقنا بهم، وأن يحشرنا تحت لوائه ، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد.


الحمد لله رب العالمين
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*

(1) - أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، (8/96)، برقم: (6452).
(2) - أخرجه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية (3/155)، رقم: (2576).
 (3) - انظر: صحيح البخاري، كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض، (3/137)، برقم: (2484)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار، (1/55)، برقم: (27).
(4) - انظر: صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من التَّوْرِ، (1/51)، برقم: (200)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم-، (4/1783)، برقم: (2279).
(5) - انظر: في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، (5/108)، برقم: (4102)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، (3/1610)، برقم: (2039).
(6) - أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب كراهية الشرب قائما، (3/1600)، برقم: (2024)، عن أنس-رضي الله عنه- بلفظ: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زجر عن الشرب قائما.



المصدر