الاثنين، 29 أبريل 2013

مِن بدع شهر رجب .. والتَّحذير من خطورة الابتِداع

 
 مِن بدع شهر رجب .. والتَّحذير من خطورة الابتِداع

فضيلة الشيخ : محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد ..

السؤال: ما حكم تخصيص العمرة في شهر رجب؟
 وهل البدع أكبر الكبائر؟
الجواب: هذان سؤالان جُعِلاَ في غلافٍ واحد؛ وهو من ذكاء هذا السائل؛ لأنَّنا في هذا المقام لا نقبل إلا سؤالاً واحدًا؛ أيهما أحب إليك الأول أم الثاني؟ السائل: الأول.

الشيخ رحمه الله : رجب أحد الأشهر الأربعة الْحُرُم، فهل تعرفها؟
السائل: ذو القعدة، ذو الحجة، مُحرَّم، رجب.
الشيخ: هذه أربعة أشهر حُرُم؛ ورجب منها بلا شك، والله حرَّم القتال فيها.
أما الثلاثة: “ذو القعدة، وذو الحجة، ومُحرَّم”؛ فلأنها أشهر الحج، القعدة للقادمين إلى مكة، والحجة للذين في مكة، ومحرَّمٌ للرَّاجعين من مكة، جعل الله هذه الأشهر الْحُرُم يحرُم فيها القتال؛ حتى يأمن الناس الذين يأتون إلى الحج.وشهر رجب كان أهل الجاهلية يعظِّمونه ويعتمرون فيه؛ فجعله الله مُحرَّمًا.

واختلف السلف - رحمهم الله-: هل العمرة فيه سُنَّة أم لا؟فقال بعضهم: إنَّها سُنَّة، وقال آخرون: لا؛ لأنها لو كانت سُنَّة لبيَّنها الرَّسول صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، إمَّا بقولٍ وإمَّا بفعلٍ.
والعمرة في أشهر الحج أفضل من العمرة في رجب؛ لأنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم اعتمر في أشهر الحج؛
ولما ذكر ابن عمر -رضي الله عنهما- (أنَّ النبي صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم اعتمر في رجب) وهَّمته عائشة؛ وقالت: [لقد وهم أبو عبد الرحمن] قالت له ذلك وهو يسمع فسكت؛ فعلى كل حال: لا أرى دليلاً واضحًا على استحباب العمرة في رجب.


كذلك أيضًا يوجد في رجب بعض الناس يخصُّه بالصوم؛ يقول: إنَّه يُسنُّ الصِّيام فيه، وهذا غلط، فإفراده بالصوم مكرُوهٌ، أمَّا صومه مع شعبان ورمضان فهذا لا بأس به، وفعله بعض السلف؛ ولكن مع ذلك نرى أن لا يصوم الثلاثة الأشهر؛ أي: رجب، وشعبان، ورمضان.

وأمَّا ما يُسمَّى بصلاة الرغائب: وهي ألف ركعة في أول ليلة من رجب أو في أول ليلة جمعة منه، فأيضًا لا صحة لها وليست مشروعة.

وأمَّا العتيرة التي تُذبح في رجب؛ فهي أيضًا منسوخة، كانت أولاً مشروعة ثم نُسِخَت وليست مشروعة.

وأمَّا الإسراء والمعراج الذي اشتُهِر عند كثيرٍ من النَّاس أو أكثرهم أنَّه في رجب، وفي ليلة سبع وعشرين مِنه؛ فهذا لا صحَّة له إطلاقًا.
وأظهر الأقوال: أنَّ الإسراء والمعراج كان في ربيع الأول، ثمَّ إنَّ إقامة الاحتفالات ليلة سبع وعشرين من رجب بدعة لا أصل لها.

والبدع أمرها عظيم جدًا وأمرها شديد؛ لأنَّ البدع الدِّينيَّة التي يَتقرَّب بها النَّاس إلى الله فيها مفاسد عظيمة؛ منها:

أولاً: أنَّ الله لم يأذن بها، وقد أنكر على الذين يتبعون من شرَّعوا بلا إذن؛ فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21].

ثانيًا: أنَّها خارجة عن هَدْي النَّبي صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنَّتي وإيَّاكم ومُحدَثَاتِ الأمور).
ثالثًا: أنَّها تقتضي إمَّا جهل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه بهذه البدعة، وإما عدم عملهم بها، وكلا الأمرين خطأ. إنْ قُلت: إنَّ الرَّسول عَلِمَ عنها مشكلة، وإنْ قلت: عَلِمَ ولكن لم يعمل ولم يبلِّغ مشكلة أيضًا.
رابعًا: أنَّها تستلزم عدم صحة قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:3] .
لأنَّك إذا أتيت بشيء جديد؛ يعني: أنَّ الدِّين في الأول ناقص لم يكمُل، وهذا خطيرٌ جدًا؛ أن نقول: هذه البدعة تقتضي أنَّ الدين لم يكمُل.
خامسًا: أنَّ هؤلاء المبتدعين جعلوا أنفسهم بمنزلة الرُّسل الذين يُشرِّعون للنَّاس، وهذه أيضًا مسألة خطيرة.
ولو تأمَّلت لوجدت أكثر من هذه الخمس في مضَارِّ البدع ولو لم يكن منها إلا أنَّ القلوب تتعلق بهذه البدع أكثر مما تتعلق بالسُّنَّة -كما هو مُشاهَد- حيث تجد هؤلاء الذين يعتنون بهذه البدع ويحرصون عليها لو فكرت في حال كثيرٍ منهم لوجدت عنده فتورًا في الأمور المشروعة المتيقَّنة؛ فهو ربما يبتدع هذه البدعة وهو حليق اللحية، مسبل الثياب، شارب للدخان، مقصِّر في صلاة الجماعة.

يقول بعض السلف: ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السُّنَّة مثلها أو أشد.حتى إنَّ بعض العلماء قال: المبتدع لا توبة له.
لأنَّه سنَّ سُنَّة يمشي النَّاس عليها إلى يوم القيامة أو إلى ما شاء الله؛ بخلاف المعاصي الخاصة؛ فهي خاصة بفاعلها وإذا تاب ارتفعت لكن المشكلة البدعة؛ حيث لو تاب الإنسان من البدعة فالذين يتَّبعونه فيها لم يتوبوا؛
فلذلك قال بعض العلماء: إنَّه لا توبة لمبتدع؛ لكن الصَّحيح أنَّ له توبة، وإذا تاب توبة نصوحًا تاب الله عليه، ثم يسأل الله أن تُمحَى هذه البدعة ممن اتبعوه فيها

السبت، 27 أبريل 2013

صلاة المنفرد خلف الصف



إجابة لســـؤال حول صلاة المنفرد خلف الصف
افضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

-*~*- *~*- *~*-*~*-

أجاب الشيخ رحمه الله
سؤال هذا الرجل تضمن مسألتين

المسألة الأولى :- الصلاة عن يسار الإمام والصلاة عن يسار الإمام خلاف المشروع فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام يصلي من الليل فلما جاءه ابن عباس رضي الله عنهما فوقف عن يساره فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسه من ورائه فجعله عن يمينه فهذا الرجل الذي صلى عن يسار الإمام نقول له إن فعلك هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختلف أهل العلم هل وقوفه هذا محرم فتكون صلاته باطلة أو هو خلاف الأولى فتكون صلاته صحيحة لكنه ترك الأولى وعلى كل حال فالأحوط للمرء أن لا يصلي عن يسار الإمام وأن يكون عن يمينه كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام بابن عباسٍ رضي الله عنهما

 أما المسألة الثانية :- فإنها الصلاة خلف الصف منفرداً فالصلاة خلف الصف منفرد منفرداً لا تجوز على القول الراجح وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد وإن كانت عنه روايةٌ أخرى أنها أنه تصح وهو مذهب الأئمة الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي .

ولكن الراجح أنها لا تصح خلف الصف منفرداً إلا إذا تعذر الوقوف في الصف بحيث يكون الصف تاماً فإنه يصلي الإنسان خلف الصف منفرداً تبعاً للإمام لأنه معذور ولا واجب مع العجز كما قاله أهل العلم رحمهم الله وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام جعل المرأة تقف خلف الصف منفردةً عن الرجال للعذر الشرعي وهو عدم إمكان وقوفها مع الرجال فإن العذر الحسي أيضاً يكون مسقطاً لوجوب المصافاة وذلك لأننا في هذه الحال إذا لم يجد الرجل إلا صفاً إلا موقفاً خلف الصف منفرداً إما أن يصلي منفرداً خلف الصف مع الإمام أو يصلي منفرداً وحده عن الجماعة أو يجذب واحداً من الصف ليكون معه أو يتقدم ويصلي إلى جانب الإمام هذه الأحوال الأربع التي يمكن أن تكون بالنسبة لهذا الرجل الذي لم يجد موقفاً في الصف فنقول له أما التقدم إلى الإمام حتى يكون إلى جانبه فإن فيه محظورين أحدهما الوقوف مع الإمام في صلاة الجماعة وهذا خلاف السنة لأن الأفضل أن ينفرد الإمام في مكانه ليكون إماماً متميزاً عن الجماعة منفرداً عنهم في المكان ليعرف أنه إمام وأنه لا ثاني معه ولا يرد علينا هذا قصة أبي بكرٍ رضي الله عنه حين جاء النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكرٍ يصلي بالناس فكان على يسار أبي بكر وأبو بكرٍ عن يمينه لأن قصة أبي بكر كان أبو بكرٍ رضي الله عنه هو الإمام أولاً ويتعذر أن يرجع إلى صفٍ وراءه لأنه متصل فوقوف أبي بكرٍ هنا على سبيل الضرورة أقول إنه إذا تقدم إلى الإمام ووقف معه يكون خلاف السنة المطلوبة في حق الإمام وهو الإنفراد وحده أما جماعته المحذور الثاني أنه إذا تقدم مع الإمام فإنه سوف يتخلل الصف أو صفين أو ثلاثة حسب ما يجد أمامه من الصفوف وهناك محظورٌ ثالث أيضاً بل فوات أمرٍ مطلوب وهو أنه إذا تقدم ثم صلى مع الإمام ثم حضر شخصٌ آخر ولم يجد مكاناً في الصف فمعناه أنه سوف يتقدم أيضاً إلى الإمام فيكون مع الإمام رجلان لكن لو أن هذا لم يتقدم إلى الإمام وبقي خلف الصف ثم جاء الثاني صار صفاً معه هذه واحدة أما جذبه لواحدٍ من الصف خلفه من الصف الذي أمامه فهذا أيضاً يترتب عليه عدة محاذير المحذور الأول فتح فرجةٍ في الصف وهذا من قطع الصف وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام من قطع صفاً قطعه الله ثانياً أن هذه الفرجة التي حدثت في الصف في الغالب أن الناس يتقاربون وحينئذٍ يؤدي إلى حركة جميع الصف كلهم يتحركون ولولا جذب هذا الرجل ما تحرك الصف وبقي الناس على طمأنينتهم المحذور الثالث أنه ينقل صاحبه الذي جذبه من المكان الفاضل إلى المكان المفضول في هذا نوع جدالٍ عليه المحذور الرابع أنه لا بد أن يحدث عنده شيئاً من التشويش إذا جذب فإن الإنسان لا بد أن يكون عنده فزع أو نحوه مما يوجب عليه تشويش صلاته وربما يمانع ويحصل في هذا بعضهم أيضاً ربما يمد يده ويضرب من يحاول أن يجذبه فالمهم كل هذه المحاذير موجودة في جذب الإنسان من الصف حتى يكون مع هذا المنفرد بقي الحال الثالثة أن نقول انصرف ولا تصلي مع الجماعة لأن الصف تام وحينئذٍ نحرمه من صلاة الجماعة ويكون منفرداً في موقفه وفي صلاته أيضاً يبقى عندنا الحال الرابعة أن نقول له كن خلف الصف منفرداً في المكان موافقاً في الأفعال وهذا هذه الأخيرة هي خير الأقسام بلا شك فإذا كانت هي خير الأقسام فإنها تكون هي المطلوبة ونقول له قف خلف الصف وصلي مع الإمام منفرداً لأنك معذور وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام لا صلاة لمنفردٍ خلف الصف فهذا حمله من يرون أن المصافة ليست بواجبة حمله على أنه نفيٌ للكمال قالوا إن هذا نفيٌ للكمال وليس نفياً للصحة لكنها ناقصة لأنهم يقولون نقول لا صلاة أي لا صلاة كاملة لمنفردٍ خلف الصف ووازنوا ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثان فإن المراد هنا لا صلاة كاملة ولكن هذا المذهب أو هذا الطريق ليس بصحيح لأن الأصل فيما نفاه الشرع انتفاء الصحة هذا هو الأصل إلا إذا وجد دليلٌ على أن المراد انتفاء الكمال فيحمل على انتفاء الكمال وإلا فالأصل أن النفي نفيٌ للصحة وبهذه المناسبة أود أن أبين أن ما ورد نفيه في النصوص فله ثلاثة حالات الحال الأول أن يكون نفياً لوجوده وهذا هو الأصل مثل لا خالق إلا الله هذا نفيٌ لوجود خالقٍ للخلق سوى الله عز وجل وهذا هو الذي يجب عليه حمل النفي لأنه الأصل فإن لم يمكن حمل النفي على هذا وكان الشيء موجوداً فإنه يحمل على نفي الصحة شرعاً مثل لا صلاة بغير وضوءٍ فالإنسان قد يصلي غير متوضئ وتوجد الصلاة لكنها شرعاً منفية وهذا نفيٌ للصحة فإن لم يمكن الحمل على نفي الصحة لوجود دليلٍ يمنع ذلك فإنه يحمل على نفي الكمال مثل لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثان فإنها هنا محمولةٌ على نفي الكمال على أن بعضاً من أهل العلم يقول إن هذا الحديث محمولٌ أيضاً على نفي الصحة إذا كان بحيث ينشغل انشغالاً كاملاُ لا يدري ما يقول في صلاته فإنه لا تصح صلاته حينئذٍ وعلى كل حال فهذه المراتب الثلاث ينبغي لطالب العلم أن يلاحظها أن الأصل في النفي نفي الوجود فإن لم يمكن وكان الشيء موجوداً فهو محمولٌ على نفي الصحة فإن لم يمكن وكان قد قام الدليل على الصحة فإنه يكون محمولاً على نفي الكمال وعلى هذا فقوله لا صلاة لمنفردٍ خلف الصف أو لفردٍ خلف الصف هو من القسم الثاني أي مما نفيت صحته فلا تصح صلاة منفردٍ خلف الصف ولكن هذا يدل على وجوب المصافاة ووجوب المصافاة عند التعذر يسقط بتعذره لأن القاعدة المعروفة عند أهل العلم والتي دل عليها قوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) تدل على أنه لا واجب مع العجز وبهذا تبين أنه إذا تعذر الوقوف في الصف لكماله فإن المأموم أو الداخل يصف وحده ويتابع إمامه وصلاته في هذه الحالة صحيحة
 
منقــــــــــــول

الاثنين، 22 أبريل 2013

أقسام مخالطة الناس

أقسام مخالطة الناس


نقلا من كتاب
التفسير القيم
للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى


قال رحمه الله :

وأما فضول المخالطة : فهي الداء العضال الجالب لكل شر . وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة ، وكم زرعت من عداوة ، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة ، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام : متى خلط أحد الأقسام بالآخر ، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر .

أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة ، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام ، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر ، وهم العلماء بأمره ، ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه ، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كل الربح .

القسم الثاني : من مخالطته كالدواء ، يحتاج إليه عند المرض . فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته ، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش ، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والإستشارة والعلاج للأدواء ونحوها ، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم
الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه .
فمنهم من مخالطته كالداء العضال ، والمرض المزمن ، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا . ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما . فهذا إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت ، فهي مرض الموت المخوف .
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك ، فإذا فارقك سكن الألم .
ومنهم من مخاطته حمى الروح . وهو الثقيل البغيض العقل ، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها ، بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين ، مع إعجابه بكلامه وفرحه به . فهو يحدث من فيه كلما تحدث ، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس ، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض . ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر .
ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله ، وقد ضعف القوى عن حمله ، فالتفت إلي وقال : مجالسة الثقيل حمى الربع . ثم قال : لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى ، فصارت لها عادة . أو كما قال .
وبالجملة : فمخالطة كل مخالف حمى الروح ، فعرضية ولازمة . ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب . وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف ، حتى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا .
القسم الرابع : من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم . فإن اتفق لآكله الترياق ، وإلا فأحسن الله فيه العزاء . وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله . وهم أهل البدع والضلالة ، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الداعون إلى خلافها ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، فيجعلون البدعة سنة ، والسنة بدعة ، والمعرف منكرا ، والمنكر معروفا .
إن جردت التوحيد بينهم قالوا : تنقصت جناب الأولياء الصالحين .
وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أهدرت اللأئمة المتبوعين .
وإن وصفت الله بما وصف به نفسه ، وبما مصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا تقصير قالوا : أنت من المشبهين .
وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت بما نهى الله عنه ورسوله من المنكر ، قالوا أنت من المفتنين .
وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا : أنت من أهل البدع المضلين .
وإن انقطعت إلى الله تعالى ، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا ، قالوا أنت من الملبسين .
وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم ، فأنت من الخاسرين ، وعندهم من المنافقين .
فالحزم كل الحزم : التماس مرضات الله تعالى ورسوله بإغضابهم وأن
لا تشتغل بأعتابهم ، ولا باستعتابهم ، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم ، فإنه عين كمالك كما قيل :

وإذا أتتك مذمتي من ناقص
()()()()
فهي الشهادة لي بأني فاضل


وقال آخر :
وقد زادني حبا لنفسي أنني
()()()()
بغيض إلى كل امرئ غير طائل


فمن أيقظ بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم ، وهي فضول النظر ، والكلام ، والطعام ، والمخالطة . واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان ، فقد أخذ بنصيبه من التوفيق ، وسد على نفسه أبواب جهنم وفتح عليها أبواب الرحمة ، وانغمر ظاهره وباطنه .

ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء ، فعند الممات يحمد القوم التقى ،
وفي الصباح يحمد القوم السرى ، والله الموفق ، لا رب غيره ، ولا إله سواه . إهــ

( التفسير القيم ص:28ـ31)
طبع دار الكتب العلمية

منقـــول

الجمعة، 19 أبريل 2013

زيادات لا أصل لها في أدعية مأثورة


زيادات لا أصل لها في أدعية مأثورة


لا يخفى فضل الأذكار النبويةِ والأدعيةِ المأثورةِ التي كان يدعو بها النبي صلى الله عليه و سلم ويعلِّمُها أصحابَه؛ وكمالُها في مبانيها ومعانيها، واشتمالُها على جوامع الخير وفواتحِه وخواتِمِه، كما قالت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: ((كان النبيُّ صلى الله عليه و سلم يُعجبُه الجوامعُ من الدعاءِ، ويدع ما بين ذلك))، رواه أبو داود في "سننه" (1482)، والإمام أحمد في "مسنده" (25151)، وابن حبان في "صحيحه" (867).
وروى الإمام أحمد في "المسند" (4160) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم عُلِّم فواتحَ الخيـر وجوامعَه وخواتِمَه».
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فإنَّه صلى الله عليه و سلم أُعطي جوامع الكلم، وخُصَّ ببدائع الحكَم، كما في "صحيح البخاري" (7013)، و"مسلم" (523) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: ((بُعثتُ بجوامع الكَلِم))، زاد البخاري: قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: ((جوامع الكلم فيما بلغنا أنَّ الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك)) اهـ.
أي أنَّه صلى الله عليه و سلم كان يتكلَّم بالكلام الموجَزِ القليلِ اللفظ، الكثير المعاني، وهكذا الشأن في أذكاره وأدعيته صلوات الله وسلامه عليه، كان يُعجبه من ذلك جوامع الذِّكر والدعاء ويدع ما بين ذلك.
وقد كان النبيَّ صلى الله عليه و سلم كان يُعلِّم أصحابه الدعاء كما يُعلِّمهم السورةَ من القرآن الكريم، وكان الصحابةَ رضي الله عنهم يطلبون منه أن يعلِّمهم دعاءً يدعون به مع أنَّهم كانوا أهلَ علمٍ وفصاحةٍ، وكان صلى الله عليه و سلم يُصوِّبُ من يخطئ منهم ولو في لفظ واحد من ألفاظ الذِّكر والدعاء.
فالواجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يعرف عِظَمَ قدر الأدعيةِ النبوية ورفيع مكانتها وأنَّها مشتملةٌ على مجامع الخير وأبواب السعادةِ ومفاتيح الفلاح في الدنيا والآخرة، فخيرُ السؤال أن يسألَ المسلمُ ربَّه مِن خير ما سأله منه عبدُه ورسولُه صلى الله عليه و سلم ، وأفضلُ الاستعاذة أن يستعيذ بالله من شرِّ ما استعاذ منه عبدُ الله ورسولُه صلى الله عليه و سلم ، وأن يحذر من الزيادة والاستدراك على الدعوات المأثورة عن النبيِّ صلى الله عليه و سلم بإضافة كلمة يستحسنها أو زيادة جملة يستجودها، وفيما يلي ذكر لبعض النماذج لما هو شائع من هذا القبيل.
1ـ قول: يا مقلب القلوب والأبصار.
وقد ثبت هذا الدعاء مرفوعاً إلى النبي عن غير واحد من الصّحابة بدون زيادة (والأبصار) منها: ما رواه الترمذي في جامعه (2140) والإمام أحمد في مسنده (12107) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول: ((يا مقلِّب القلوب ثبت قلبي على دينك)). قال الترمذي: وفي الباب عن النواس بن سمعان، وأمِّ سلمة، وعبيد الله بن عمرو، وعائشة رضي الله عنهم.
ولعلّ من زاده أخذه من قوله تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] ومقام الآية مقامٌ آخر إذ هي في بيان عقوبة الله للمشركين بتقليب القلوب وجعل الغشاوة على الأبصار والحيلولة بينهم وبين الإيمان وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم.
2ـ قول: لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.
روى أبو داود في سننه (5090) والإمام أحمد في مسنده (20702) وابن حبان في صحيحه (970) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((دعوات المكروب اللّهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لى شأنى كله لا إله إلا أنت)).
فزيادة (ولا أقل من ذلك) لا أصل لها في هذا الحديث، والمقصود من ذكر طرفة العين بيان الافتقار الشديد إلى الله عزّ وجل وعدم استغناء العبد عنه في أي لحظة مهما قلت.
3ـ قول: من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه
و سلم ، وعبادك الصالحون، وكذا في التعوّذ.
روى الإمام أحمد في مسنده (25137، 25138) والحاكم في مستدركه (1/522) وصحّحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنّ أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأراد أن يكلمه وعائشة تصلي فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((عليكِ بالجوامع الكوامل)) فلما انصرفت عائشة سألته عن ذلك فقال لها: ((قولي اللهمّ إنى أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشرّ كلّه عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنّة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأسألك من الخير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه و سلم ، وأستعيذك مما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه و سلم، وأسألك ما قضيت لي من أمر ان تجعل عاقبتَه رَشَداً)).
فزيادة (وعبادك الصالحون) في السؤال والتعوّذ استدراك على هذا الدعاء الجامع الكامل؛ ومن المعلوم أن الصالحين من عباد الله ليس عندهم مطالب في أدعيتهم زائدة عن المأثور عنه صلى الله عليه و سلم ، إذ دعواته عليه الصلاة والسلام حوت الخير كله والفضل أجمعه.
4ـ قول: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو.
روى الترمذي (3513) وصحّحه وابن ماجه (3850) والإمام أحمد (25423) والحاكم (1/530) وصحّحه عن عائشة رضي الله عنه قالت يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو ؟ قال: (( تقولين: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عني )).
والكريم اسم من أسماء الله الحسنى، لكن لم يثبت في هذا الموضع ولا أصل له في هذا الحديث، كما قرره الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه "تصحيح الدعاء" (ص506).
ووجودها مثبتة في بعض طبعات الترمذي زيادة من بعض النساخ أو الطابعين فيما يظهر، قال الشيخ الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (7/1011ـ1012): ((وقع في "سنن الترمذي" بعد قوله: "عفو" زيادة: "كريم "! ولا أصل لها في شيء من المصادر المتقدمة، ولا في غيرها ممن نقل عنها، فالظاهر أنها مدرجة من بعض الناسخين أو الطابعين؛ فإنها لم ترد في الطبعة الهندية من " سنن الترمذي " التي عليها شرح "تحفة الأحوذي " للمباركفوري (4/ 264)، ولا في غيرها. وإن مما يؤكد ذلك: أن النسائي في بعض رواياته أخرجه من الطريق التي أخرجها الترمذي، كلاهما عن شيخهما (قتيبة بن سعيد) بإسناده دون الزيادة)).
وليست مثبتة في "جامع الترمذي" بتحقيق بشار عواد.
5ـ قول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت
وتعاليت
يا ذا الجلال والإكرام.

روى مسلم في صحيحه (591) عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: ((اللّهمّ أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام)).
وروى أيضاً (592) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا سلّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام)).
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه "تصحيح الدعاء" (ص431): ((وأما زيادة لفظ (وتعاليت) بعد لفظ ((تباركت)) فلا تثبت في هذا الحديث، وهي ثابتة في دعاء القنوت ((اللهم اهدنا فيمن هديت... تباركت وتعاليت)) وفي دعاء الاستفتاح بلفظ: ((سبحانك اللهم وبحمدك...وتعالى جدك)).
6ـ قول: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.
قد ثبت في السنة صيغ كثيرة للاستغفار ليس في شيء منها التقييد بالذنب العظيم، بل صحّ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول في سجوده: ((اللّهم اغفر لي ذنبي كلَّه دقَّه وجِلَّه وأوَّله وآخره وعلانيته وسرَّه)). رواه مسلم (483) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وروى أيضاً (2719) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يدعو بهذا الدّعاء: ((اللّهمّ اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في "جلاء الأفهام": ((ومعلوم أنه لو قيل اغفر لي كلّ ما صنعت كان أوجز ولكن ألفاظ الحديث في مقام الدّعاء والتضرع وإظهار العبودية والافتقار واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلا أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار)) اهـ.
فكيف بمن يقصر طلب المغفرة على الذنب العظيم؟!.
7ـ قول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار
. بين الركن اليماني والحجر الأسود.

فزيادة (وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار) لا أصل لها، كما قرره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتاواه (22/332)، وفي كتابه "الشرح الممتع" (7/248).
والثابت من دعائه صلى الله عليه و سلم في هذا الموضع إلى قوله: ((... وقنا عذاب النار))، روى أبو داود والإمام أحمد وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن السائب قال: سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول بين الركن والحجر: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)).
وقد كان هذا أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و سلم ، كما ثبت في صحيح مسلم (2690) عن قتادة أنه سأل أنس بن مالك رضي الله عنه: أيُّ دعوة كان يدعو بها النبيُّ صلى الله عليه و سلم أكثر ؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: ((اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)) قال قتادة: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. وليس فيه هذه الزيادة.
ومثل هذا كثيرٌ في واقع الناس وحالهم، واكتفيت ببعض الأمثلة تنبيهاً على نظائرها. واقتصرت على ما لا أصل في السنة دون ما كان مروياً بأسانيد ضعيفة أو مختلف في ثبوتها، والله وحده ولي التوفيق والسّداد .

منقــــــــــــــــــــــــــــــــــــول
موقع الشيخ عبد الرزاق البدر

الانتكاسة بعد الهداية



الانتكاسة بعد الهداية

خالد عبد المنعم الرفاعي



فإن الانتكاسة إنما تقع لأسباب يحسُن معرفتُها؛ لتجنبها، من أهمها: الالْتِفاتُ إلى الذنب، والحنينُ إليه، وتَذَكُّره، وعلاجُ ذلك بِقَلْع الذنب من القلب، وتناسيه؛ كما قال ابن الجوزي: "إنك إذا اشتَبَكَ ثوبُك في مسمارٍ، رجعتَ إلى الخلف لتُخلِّصه، وهذا مسمارُ الذنب قد عَلَقَ في قلبك، أفلا تنزعه؟!.. انزَعْهُ، ولا تَدَعْهُ بقلبك يغدو عليك الشيطان ويَرُوحُ، اقْلَعِ الذنبَ من قلبك" اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة "مجموع الفتاوى" (16 / 58): "فإن العبد إنما يعود إلى الذَّنب؛ لبقايا في نفسه، فمَن خرج مِن قلبه الشبهة والشهوة، لم يعد إلى الذنب".

الأمر الآخر: أن الذنوب تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لأوامِر الله، ولا مجتنبة لنواهيه؛ قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65]، فعبادُ الله المخلصون لا يُغويهم الشيطان، ومن مالتْ نفسُه إلى محرَّمٍ، وَجَبَ عليه أن يأتي بعبادة الله كما أمر الله، مخلصًا له الدين؛ فذلك يَصرِف عنه السوء والفحْشاء؛ فالعبادةُ كالترياق الذي يدفع أثر السم، ويرفعه بعد حصوله، وكالطب الذي يحفظ الصحة، ويدفع المرض، وكذلك ما في القلب من الإيمان يُحفَظ بأشباهه مما يقومُ به.
ففِرَّ بصدقٍ إلى الله، وخُذ نفسك بالشِّدَّة، ولا تتهاون معها، ولا تتعلل بحُجج واهية؛ من شدة الشهوة، وما شابه، فلا يوجدُ دواءٌ في معصية الله ألبتة، بل في التوبة النصوح، والعزم الأكيد على عدم العَوْدِ، وتَقطَع النفس بالندم على ما فات، مع مجاهدة النفس؛ قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (21 / 37): "فهذا الجهاد يحتاج أيضًا إلى صبر، فمن صَبَرَ على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه، غَلَبَهُ، وحَصَلَ له النصرُ والظفرُ، وملك نفسه، فصار عزيزًا ملكًا، ومن جَزَعَ ولم يصبر على مجاهدة ذلك، غُلِبَ، وقُهِرَ، وأُسِرَ، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه، كما قيل: 

إِذَا المَرْءُ لَمْ يَغْلِبْ هَوَاهُ أَقَامَهُ *** بِمَنْزِلَةٍ فِيهَا العَزِيزُ ذَلِيلُ

قال ابن المبارك: "من صبر، فما أقلَّ ما يصبر، ومن جزع، فما أقلَّ ما يتمتع".
فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن النصر مع الصبر"، يشمل النصر في الجهادين: جهاد العدو الظاهر، وجهاد العدو الباطن، فمن صبر فيهما، نُصِرَ، وظَفَرَ بعدوه، ومن لم يصبر فيهما وجزع، قُهِرَ، وصار أسيرًا لعدوه، أو قتيلًا له" اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (10 / 635): "فإذا كانت النفس تهوى، وهو ينهاها، كان نهيه عبادة لله، وعملًا صالحًا"، وثبت عنه أنه قال: "المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، فيؤمر بجهادها، كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي، ويدعو إليها، وهو إلى جهاد نفسه أحوج؛ فإن هذا فرض عين، وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال؛ فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فمَن صبر عليه، صبر على ذلك الجهاد؛ كما قال: "والمهاجر من هجر السيئات"، ثم هذا لا يكون محمودًا فيه إلا إذا غلب، بخلاف الأول؛ فإنه: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرعة"؛ وذلك لأنَّ الله أمر الإنسان أن ينهى النفس عن الهوى، وأن يخاف مقام ربه، فحصل له من الإيمان ما يعينه على الجهاد، فإذا غُلِبَ، كان لضعف إيمانه، فيكون مفرِّطًا بترك المأمور، بخلاف العدو الكافر؛ فإنه قد يكون بدنُه أقوى".

وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (3 / 5) بعد ما بين أن العبد امتحن بأعداء ثلاثة أُمِرَ بمحاربتها، وجهادها؛ وهي النفس، والشيطان، وأعداءُ الله: "فأعطى عباده الأسماع، والأبصار، والعقول، والقُوَى، وأنزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله، وأمدهم بملائكته، وقال لهم: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوِّهم، وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم، وأنه إن سلطه عليهم، فَلِتَرْكِهِمْ بعضَ ما أُمِروا به، ولمعصيتهم له، ثم لم يؤَيِّسْهم، ولم يقَنِّطهم، بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم، ويداوُوا جراحهم، ويعودوا إلى مناهضة عدوهم، فينصرَهم عليه، ويُظْفِرَهُمْ بهم، فأخبرهم أنه مع المتقين منهم، ومع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المؤمنين، وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم، ولولا دفاعه عنهم، لتخطفهم عدوهم واجتاحهم.
وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم، وعلى قَدْرِهِ، فإن قَوِيَ الإيمان، قويت المدافعة، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

وقال في "الجواب الكافي" حيث يقول: "فلو نظر العاقلُ، ووازَنَ بين لذَّة المعصية، وما تولَّد فيه من الخوف والوحشة، لَعَلِمَ سوء حاله، وعظيم غبْنه؛ إذْ باع أُنسَ الطَّاعة وأمنَها وحلاوتَها، بوحشة المعصية، وما تُوجبه من الخوف.
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ *** فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ

وسرُّ المسألة: أنَّ الطَّاعة تُوجب القُرب من الرَّبِّ سبحانه، وكلَّما اشتدَّ القرب قَوِيَ الأُنس، والمعصية توجب البعد من الرَّبِّ، وكلَّما زاد البُعْد قوِيت الوحْشة؛ ولهذا يَجد العبد وحشةً بيْنَه وبين عدوِّه؛ للبعد الَّذي بيْنهما، وإن كان ملابسًا له، قريبًا منه، ويجد أنسًا قويًّا بينه وبين من يُحب، وإن كان بعيدًا عنْه، والوحشة سبَبُها الحجاب، وكلَّما غلظ الحِجاب زادت الوحشة، فالغفْلة تُوجب الوحشة، وأشد منها وحشةُ المعصية، وأشدُّ منها وحشةُ الشِّرك والكفر، ولا تَجد أحدًا يُلابس شيئًا من ذلك إلاَّ ويعْلوه من الوحشة بِحسَب ما لابَسه منه، فتعلو الوحشةُ وجْهَه وقلْبَه، فيستوْحِش، ويُستوحَش منه".

والزم نفسك الامتثال لهذه الأمور:
الأول: مُفارقةُ الأحْوال الَّتِي اعْتدتَها في زمَنِ المعصِية، والتَّحوُّل منها كلها، والاشتغال بغيرها؛ بمعنى أن المعصية إمَّا أن ترتبط بحالٍ، أو مكانٍ، أو أشخاصٍ، أو غير ذلك؛ فأنت مُطالَبٌ حتى تَثْبُتَ على التوبة؛ أن تُفارِقَ كلَّ ما من شأنه أن يُساعدَك على المعصية، أو يُذكرَك بها، أو يُعاوِنَك عليها، وهذا من أسرارِ مشروعيةِ الهجرةِ، وتأمل رعاك الله قولَ أعلمِ أهلِ الأرضِ في زمانه لمَّا قال لقاتل المائة نفس: "مَن يَحولُ بينهُ وبين التوبة؟ انطَلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا تَرجِعْ إلى أرضكَ؛ فإنها أرضُ سُوءٍ"؛ قال العلماء: "في هذا استحبابُ مُفارقَةِ التائب المواضعَ التي أصاب بها الذنوب، والأخدانَ المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يَستبدِل بهم صحبةَ أهل الخير والصلاح، والعلماء، والمتعبِّدين الوَرِعين، ومن يُقتدَى بهم، ويُنتَفَعُ بصحبتهم، وتتأكَّدُ بذلك توبتُه؛ قاله النووي في شرحه على مسلم" (9 / 143)، وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6 / 517): "وفيه: فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية؛ لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك؛ إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك، والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه؛ ولهذا قال له الأخير: "ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء"؛ ففيه إشارةٌ إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحوُّل منها كلها والاشتغال بغيرها".
الثاني: استحضار مُراقبة الله تعالى لك في السرِّ والعلانية، وأنه يراك، ولا يخفى عليه شيءٌ مما تفعل؛ قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وهذا هو مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام: "أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكنْ تراه، فإنه يراك" [متفق عليه]، فاستحضار قربه سبحانه يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، قال أبو ذر: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أخشى الله كأني أراه"، وعن أبي أمامة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وصى رجلًا فقال له: "استحي مِن الله استحياءك مِن رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك"، وعن معاذٍ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "استحي من الله كما تستحيي من رجلٍ ذي هيبةٍ من أهلك"، ويروى عن معاذٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاه لما بعثه إلى اليمن، فقال: "استحي من الله كما تستحيي من رجلٍ ذي هيبة من أهلك"، فإن شق عليك انتقلت إلى المنزلة الأخرى، وهي إيمانك أن الله يراك، ويطلع على سرك وعلانيتك، وباطنك وظاهرك، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمرك، وذلك يورث الاستحياء من نظره سبحانه قال بعضُ الصالحين: "اتقِ الله أن يكونَ أهون الناظرين إليك"، وراجع منزلة المراقبة من كتاب: "مدارج السالكين".
ثالثًا: تيقَّن أن التوبة تمحو جميع السيئات، وليس شيءٌ من العبادات يمحو جميع الذنوب إلا التوبة؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، هي لمن تاب؛ ولهذا قال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}؛ بل توبوا إليه، وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54]، وكذلك عبادة التوبة أفضل أعمال المؤمن؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للغامدية بعدما أقرت بالزِّنا ورجمها: "فوالذي نفسي بيده، لقد تابتْ توبةً لو تابها صاحب مكسٍ، لغفر له" [رواه مسلم].
ومعنى المكس: الجباية، وغلب استعماله فيما يأخذه أعوان الظلمة عند البيع والشراء، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عبدًا أصاب ذنبًا - وربما قال: أذنب ذنبًا - فقال: ربّ أذنبتُ - وربما قال: أصبتُ - فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا، أو أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت - أو أصبت - آخر، فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، وربما قال: أصاب ذنبًا، قال: قال: رب أصبت - أو قال: أذنبت - آخر، فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثًا، فليعمل ما شاء"؛ ومعناه: ما دام يتوب إلى الله توبة نصوحًا بعد كل ذنبٍ، فإن الله يغفر له، وليس في الحديث إغراءٌ بالمعصية، ولكنه حثٌّ على المبادرة بالتوبة الصادقة؛ فالله سبحانه يعلم أننا غير معصومين من الخطأ؛ ولذلك فتح لنا باب التوبة في كلِّ وقت، حتى تبلغ الروح الحلقوم، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون" [رواه الترمذي، وابن ماجه]، وقال: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة، تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ" [رواه الترمذي]، ويجب أن يشغلك الندم على الذنوب الماضية، والإقلاع عن الحاضرة، والعزم على عدم العودة في المستقبل، وعلى قدر صدقك؛ سيوفقك ويعينك الله، ويسترك؛ فلا تنفضح، ويقيك من شر الذنب؛ فلا يعاقبك عليه.
رابعًا: جاهِدْ نفسك، وقوِّ إرادتك، وانظر في العواقب، ولتعلمْ أن المعصية سببٌ للشقاء، والضنك، والضيق، والخوف، وأن من تركها لله، عوَّضه الله خيرًا منها، وأعظمها محبة الله، وطمأنينة القلب بذكره، والسعادة الحقة؛ فالله تعالى يمهل ولا يهمل؛ فربما سترك الله؛ لأجل أن تراجع نفسك، وتقلع عن فعلتك؛ فإذا أصررت عليها لا قدر الله ربما كشف أمرك، وهتك سترك.
خامسًا: المحافظة على الصلوات، وإقامتها على الوجه الأكمل؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكَر.
سادسًا: إدمان الذِّكر، والأوراد المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، ونحوها من الأذكار المطلقة والمقيدة، وكذلك أكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ فإنها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تكابد بها الأهوال، وتحمل الأثقال، وينال رفيع الأحوال".
سابعاً: ملازمة الدُّعاء، وتحرِّي أوقات ومواضع الإجابة، ومصاحبة الأخيار، والبُعد عن الأشرار، مع شغل الوقت بما يعود عليك نفعه، ولتبتعد عن الفراغ في دينك، ودنياك.
ثامنًا: تجنُّب المثيرات؛ بالبُعد عن مواطن الفتَن.
تاسعًا: الحذر من تذكُّر الذنب بين الفينة والأخرى؛ فالتفات القلب إلى الذنب، يجعل الإنسان غالبًا يحن إليه؛ فلا بد والحال كذلك من نسيان الذنب، أو تناسيه، وقطع الاسترسال في تفكره.
عاشراً: احرص على اقتناء كتاب: "تلبيس إبليس"؛ لابن الجوزي، و"إغاثة اللهفان"، و"مدارج السالكين"؛ لابن قيم الجوزية، وراجع لزامًا "فصل في مشاهد الخلق في المعصية"؛ حيث ذكر ثلاثة عشر مشهدًا، وقال: "وهذا الفصل مِن أجَلِّ فصول الكتاب وأنفعها لكل أحدٍ، وهو حقيقٌ بأن تثنى عليه الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى: "سفر الهجرتين في طريق السعادتين".
والله أسأل أن يرزقنا - جميعًا - توبةً نصوحًا، ويثبتنا على صراطه المستقيم.
 
منقــــــــــــــول

الثلاثاء، 16 أبريل 2013

شرح قصيدة "يا من يدعي الفهم"

شرح قصيدة "يا من يدعي الفهم"
يقول راجي عفو ربه العلي ومؤمل لطفه الخفي والجلي : أبو محمد رضا بن أحمد الصمدي :

الحمد لله الذي أنعم على أوليائه بالفهم، وأفاض عليهم صنوف العلم، فجعلوا العلم والفهم عدتهم في العمل والسعي، وأصلي واسلم على سيد السائرين في طريق الآخرين، وقائد المشمرين في سبيل جنة الرضوان، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

وبعد :
استمعت إلى قصيدة "يا من يدعي الفهم" بأداء الشيخ  مشاري راشد العفاسي، فوقعت على معاني عميقة وألفاظ دقيقة، فأحببت أن يعم النفع بها، خاصة لمن استمع إليها ممن قلت بضاعته في اللغة وأسرارها، فكان هذا الشرح المختصر الذي يزيح الستار عن جلي معانيها وبعض خفي مراميها، ولم أطل الوقوف على عميق المعاني وأسرار المباني خشية الإملال وفرار من فرار الراغبين في الإقلال، وأسأل الله تعالى صحة القصد وجميل النية، وعظيم النفع لمن قرأ القصيدة وتدبرها وفهمها وعمل بما فيها .

أَلا مَنْ يَدَّعِيْ الفَهْمْ*** إِلَى كَمْ يَا أَخَا الوَهْمْ
تُعَبِّيْ الذَّنْبَ وَالـَّذمّْ*** وُتُخْطِيْ الخَطَـأَ الجَمّْ

الشرح :

ألا : للتنبيه ...

من يدعي الفهم : أي الذكاء والحذق والقدرة على معالجة الأمور .

إلى كم يا أخا الوهم : استفهام إنكاري مَنْبَعُهُ الشفقة والحرص على النصح، والمراد : إلى متى ذهولك عن الحقائق، وانخداعك في نفسك . ونسب المنصوح للوهم وجعله أخا له تأكيدا على أنه غارق في الخدعة لاهٍ عن المكيدة .

تُعَبِّي : مِنْ عَبَّ الماء أي شربه أو تتابع في شربه، وهو استعارة، كأن إتيانه الذنب بعد الذنب سهل كشرب الماء، أو أنه متتابع في ذنبه كتتابع الشارب للماء وهو مُستلذ لا يُنَغِّصُ عليه مُكدر، أو يكون من عَبْوِ المتاع أي تَعْبِيَتُه أي جَمْعُه، أي أنه سادر في وهمه يجمع المعاصي، ذنبا بعد ذنب، كأنه يجمع أمتعته في هذه الدنيا ظانا أنه بذلك سينال خلودا أو يحصّل أمانا ...

والذنب والذم مترادفان، والمقصود بهما المعصية مطلقا، سواء كانا حراما كبيرة أو صغيرة، أو أن الذنب هو الحرام، والذم هو المكروه .
وقوله : تخطي الخطأ الجم أي الكثير الوافر، فلا يتقلل منه بل يكثر ويستكثر .

أمَا بَانَ لَكَ العَيْبْ*** أَمَا أَنْذَرَكَ الشَّيْبْ
وَمَا فِيْ نُصْحِهِ رَيْبْ*** وَلا سَمْعُكَ قَدْ صَمّْ

الشرح :

أما ظهرت لك عيوب نفسك بعد، أما رأيت في بياض شعرك نذيرا بقرب أجلك، أما كان فيه نصحا بدنو الموت وأنه لا ريب فيه، وما اخَالُ سمعك قد صُمّ حتى تَذْهَلَ عن كل هذه النُّذُر وتنسى كل هذه المواعظ .

أَمَا نَادَى بِكَ المَوْتْ*** أَمَا أَسْمَعَكَ الصَّوْتْ
أَمَا تَخْشَى مِنَ الفَوْتْ*** فَتَحْتَاطَ وَتَهْتَــمّْ

الشرح :

أما ناداك الموت في كل وقت ترى فيه إخوانك وخِلانك يموتون، أما أَسْمَعَكَ صوتُ الوَعْظِ وَعْظَه، أما تخشى من فوات الفُرَص، وزوال العمر، أما يجعلك هذا كله تحتاط لنفسك وتهتم لأمرك ؟؟؟

فَكَمْ تَسْدَرُ في السَّهْوْ*** وَتَخْتَالُ مِنَ الزَّهْـوْ
وَتَنْصَبُّ إِلَى اللَّهْـوْ*** كَأَنَّ المَوْتَ مَا عَمّْ

الشرح :

السَّدَر بفتحات، مِن سَدِرَ كفَرِحَ يَسْدَر وهو الذي لا يهتم ولا يبالي ما صنع، والمقصود أنه يتعمد السهو والنسيان ولا يبالي هل قصّر أم لم يقصر .

والزَّهْو : على وزن العفو ، هو المنظر الحسن، أي يعتريك الفخر ويظهر عليك الخيلاء من المنظر الحسن الذي تباري به غيرك وتنافس به سواك .

وقوله : تنصبّ إلى اللهو : استعارة تفيد انكبابه على الملذات وجريانه إليها كجريان الماء وانصبابه من عل .

قوله : كأن الموت ما عم: أي كأنه لم ير للموت أثرا بين الناس، أو لم يبصر له نموذجا في قريب أو بعيد .

وَحَتَّـامَ تَجَافِيْـكْ*** وَإِبْطَاءُ تَلافِيْـكْ
طِبَاعَاً جَمَّعْتْ فِيْكْ*** عُيُوْبَاً شَمْلُهَا انْضَمّْ

الشرح :

حَتَّامَ، مَنْحُوْتٌ مِن : حَتَّى مَتَى .. والتجافي البعد، أو النفور، والإبطاء في التلافي يعني التواني في تلافي العيب والنقص وإصلاح ما فسد وسد ما انخرم وبناء ما انهدم، والمقصود التوبة والإنابة وإصلاح عيوب النفس وما أتت من الذنوب والمعاصي .

وقوله : طباعا جمعت فيك عيوبا شملها انضم : بيان لأصل الداء، وأنه الطبع، وهو السبب في نشوء العيوب، والحصيف من بادر إلى طبعه فهذبه بقانون الشرع، فإن الطَّبْعَ يَغْلِبُ التَّطَبُّع، ولكنه لا يغلب التَّشَرُّع أي التنسك والالتزام بآداب الشريعة، فمن سَاسَ نفسه بالشرع انقادت له طباعه فانصلحت له عيوبه، من تمادى في ترك طباعه ولم يبال بترويض قلبه وانصياعه تجمعت عليه النواقص واشتدت عليه العيوب وانضم بعضها إلى بعض حتى يصعب الإصلاح ويعسر التلافي وتضيع فرصة الإنابة والرجوع .

إَذَا أَسْخَطْتَ مَوْلاكْ*** فَمَا تَقْلَقُ مِنْ ذَاكْ
وَإِنْ أَخْفَقْتَ مَسْعَاكْ*** تَلَظَّيْتَ مِنَ الهَـمّْ

الشرح :

يصف مسلك الإنسان، وأنه لا ينصف ربه من نفسه، فإذا أسخط ربه ما قلق ولا خاف، ولا جزع ولا هلع، ولكنه إن أخفق في أمر من أمور الدنيا وفشل في تجارة من تجاراتها، وخسر شيئا من زينتها نزل عليه الهم وأصابه من صنوف الغم ما يجعله يتلظى كالنار ويغلي كالحميم وهذا دليل على خلو القلب من التقوى ومخافة ا لرحمن .

تُعَاصِيْ النَّاصِحَ البَرّْ*** وَتَعْتَاصُ وَتَـزْوَرّْ
وَتَنْقَادُ لِمَنْ غَــرّْ*** وَمَنْ مَانَ وَمَنْ نَمّْ

الشرح :

تُعَاصِي : اي تعصيه المرة بعد المرة، فالناصح البر: هو الشفيق المخلص الذي يناصح المرة بعد المرة، ولكنه يجد الصدود بعد الصدود، وصاغه على المفاعلة لأن الناصح يعصيه بعدم كف النصح، وذاك يعصيه بعدم الامتثال، وتعتاص: من اعتاص عليه الأمر أي اشتد، والمقصود اشتداد أمر النصيحة عليه ، وتَزْوَرّ: أي تهرَب وتَرُوغ .وتنقاد لمن غَرّ: أي تتبع من يخدعك وتلين لمن يخذلك وتصدق من يكذبك ...
ومان: أي كذب ، والنَّمُّ: هو نقل الحديث إفسادا أو تزيينه بالكذب أو الإغراء بفعل الشيء وفيه ضرر .

وَتَسْعَى في هَوَى النَّفْسْ*** وَتَحْتَالُ عَلَى الفَلْسْ
وَتَنْسَى ظُلْـمَةَ الرَّمْسْ*** وَلا تَذْكُــرُ مَا ثَمّْ

الشرح :

تسعى في هوى النفس :أي تمشي في رضاها، وتبذل في مناها، ولا تتجشم مخالفتها ولا تجرؤ على مناجزتها ...

وتحتال على الفلس : أي تناور بالحيل في نوال المال، وتخادع بالمكائد في الحصول على المأمول .

وتنسى ظلمة الرَّمْس : أي تنسى القبر وظلمته، واللحد ووحشته ... فالرمس على وزن الأمس هو القبر ...
ولا تذكر ما ثَمّ : أي لا تحاول تذكر ما ينتظر هناك في القبر من أهوال وفظائع .. ثَمَّ : هناك .

وَلَوْ لاحَظَكَ الحَظّْ*** لََمَا طَاحَ بِكَ اللَّحْظْ
وَلا كُنْتَ إِذَا الوَعْظْ*** جَلا الأَحْزَانَ تَغْتَمّْ

الشرح :

الحظ : هو النصيب والمقدور، والمراد به هنا عناية الله تعالى، وطاح أي أذهب وأفسد، واللحظ: هو النظر والمقصود به الالتفات إلى الدنيا عن الآخرة .. والمعنى : لو أدركتك عناية الله ونالك الحظ من توفيقه لما ذهبت بك الدنيا مذاهبها وأطاحت بك في أوديتها ولما كنت غليظ القلب إذا سمعت الوعظ والنصح اغتممت وحزنت مع أن الجدير أن يذهب الوعظُ بهمك ويُجْلِي النصحُ حزنَك لما فيه من خير لك في الدين والدنيا، ولكنك غارق في شئون نفسك لاه عن نفعها في الحال والمآل .

سَتُذْرِيْ الدَّمَّ لا دَمْعْ*** إِذَا عَايَنْتَ لا جَمْعْ
يَقِيْ فِيْ عَرْصَةِ الجَمْعْ*** وَلا خَالَ وَلا عَـمّْ

الشرح : تُذْرِيْ : أي تُسْقِطُ، والمعنى أنك ستبكي دما لا دمعا إذا عاينت وشاهدت في عرصات يوم القيامة حقائق الأمور وعلمت أنه لا جَمْعَ يحميك ولا عُصْبَة تَقِيْك ولا قبيلة تؤويك، فلا خال ولا عم، ولا أب ولا أم، ولا أخ ولا صديق، بل ما ثَمَّ إلا عملك الذي قدمته بين يديك ...

كَأَنِّيْ بِكَ تَنْحَــطّْ*** إِلَى اللَّحْدِ وَتَنْغَـطْ
وَقَدْ أَسْـلَمَكَ الرَّهْطْ*** إِلَى أَضْيَقَ مِنْ سَـمْ

الشرح :

كأني بك : عبارة يراد بها تمثيل ما سيحدث في المآل، وتنحط تسقط من عل، وتنغط : تغطس في مكان عميق حتى يعلوك هذا المكان، والمعنى أنك عند الموت سيضعونك في قبرك من مكانهم العالي فتنزل إلى مكان سافل منحط، وتغطس وتنغط فيه كما يغطس الغاطس في الماء، ويسلمك رهطك وأهلك إلى مكان حفرة ضيقة كأنها أصغر من سم أي ثقب صغير ... والسم الثقب ويقرأ فتح السين وبالضم والكسر أيضا .

هُنَاكَ الجِسْمُ مَمْدُوْدْ*** لِيَسْـتَأْكِلَهُ الدُّوْدْ
إِلَى أَنْ يَنْخَرَ العُوْدْ*** وَيُمْسِيْ العَظْمُ قَدْ رَمّْ

الشرح :

هناك أي في القبر الجسم ممدود معروض ليأكله الدود، فلا يزال ينال الدود من الدم واللحم حتى يصل إلى العظم فينخر فيه حتى يصل إلى النخاع فيصير رميما ...

وَمِـنْ بَعْدُ فَلا بُدّْ*** مِنَ العَرْضِ إِذَا اعْتُدْ
صِـرَاطٌ جِسْرُهُ مُدّْ*** عَلَى النَّارِ لِمَــنْ أَمّْ

الشرح :

وبعد دخول القبر وبعث الأجساد لا بد من عرض الأعمال والحساب والميزان، ثم المرور على الجسر الممدود على النار، فيمر عليه كل الخلق فإما ناج أو مخدوش مسلم أو مطروح واقع هالك ... لمن أمّ : لمن قصد ..

فَكَمْ مِنْ مُرْشِدٍ ضَلّْْ*** وَمِنْ ذِيْ عِــزَّةٍ ذَلّْْ
وَكَمْ مِنْ عَـالِمٍ زَلّْ*** وَقَالَ : الخَطْبُ قَدْ طَمّْ

الشرح :

كم: للتكثير، أي كم من مرشد في الدنيا إلى الخيرات ودال على الهدى ضل طريقه يوم القيامة، وكم من عزيز علا مقامه وسمت منزلته ذل يوم القيامة وانحط، وكم من عالم بصير زلت به قدمه على الصراط أو زل عمله عند العرض فعاين المصائب والعظائم وقال بلسان الحال والمقال : إن الخطب عظيم والأمر شديد . طم الخطب : عظم واشتدت ومنه قوله تعالى : {َإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات:34]
فَبَـادِرْ أَيُّهَا الغُمْرْ*** لِمَنْ يَحْلُوْ بِهِ المُـرّْ
فَقَدْ كَادَ يَهِيْ العُمْرْ*** وَمَا أَقْلَعْتَ عَنْ ذَمّْ

الشرح :

فبادر أيها المغتر بالدنيا، ومن قصرت به خبرته وتجربته إلى ربك الذي يرزقك إيمانا تحلو به حياتك المرة، وتنسى بقربه شقاء الدنيا، فقد اقترب العمر من الفناء ودنى وقت الوفاء ومع ذلك لم تقلع عن الذنوب وما يجلب الذم والتقريع .

الغُمر بضم الغين وقد تفتح هو من لم يجرب الأمور .
من يحلو به المر : هو ما يعطيه الرب لعبده إذا عاين لذة الطاعة ، والمر هو شقاء الدنيا وعذابها .

ويهي العمر : يفنى وينقضي ويقل ويضعف، مِنْ وَهَى الأمرُ أي ضَعُفَ .

وَلا تَرْكَنْ إِلَى الدَّهْرْ*** وَإِنْ لانَ وَإِنْ سَـرّْ
فُتُلْفَى كَمَنْ اغْتَـرّْ*** بِأَفْعَى تَنْفُثُ السَّمّْ

الشرح :

لا تركن إلى الزمان وتطمئن للخلود فيه، وإن ضحكت لك الحوادث والخطوب ولانت لك الحياة وسرت بك الدنيا، وإلا صرت كذاك المغرور الذي مضى عمره يجمع المال وما تزكّى حتى إذا غرق في غروره جاءه الموت في لذته وسروره وأدخل في قبر فتلقاه حية رقطاء تنفث السم وتتوعده بالعذاب وتتهدده بالويل والثبور .

والسم : هو ذاك القاتل المعروف ، وهو بفتح السين ، وقيل بضمها وكسرها .

وَخَفِّضْ مِنْ تَرَاقِيْكْ*** فَإِنَّ المَوْتَ لاقِيْكْ
وَسَـارٍ فِيْ تَرَاقِيْكْ*** وَمَا يَنْكُـلُ إِنْ هَمّْ

الشرح :

تَطَامَنْ في سيرك وسعيك، ولا تمش في الأرض مرحا، وسر في الأرض هونا، ولا تكن من الذين يريدون رقيا وعلوا في الأرض وفسادا، فإن الموت لا بد أن يلقاك في زمن من الأزمان، وقد يكون في زمان طلب الرقي والعلو، فإذا ما جاءك سرى في جسدك حتى يبلغ بك التراقي، جمع ترقوة بفتح التاء ( ولا تضم ) وتسكين الراء وضم القاف وفتح الواو هو العُظيم بين ثغرة النحر والعاتق، يعني أن الموت إن جاء حل في أرجاء الجسد وما يتراجع إن بدأ في الحلول والنزول .
التراقي الأولى هي منازل الدنيا ومعالي درجاتها، والثانية جميع ترقوة العظيم المذكور .

ما ينكل : ما يتراجع، إن هم : إن بدأ وحَلَّ .

وَجَانِبْ صَعَرَ الخَدّْ*** إِذَا سَاعَدَكَ الجَدّْ
وَزُمَّ اللَّفْظَ إِنْ نَدّْ*** فَمَا أَسْعَدَ مَنْ زَمّْ

الشرح : صَعَر الخَدّ هو لَيُّ الصَّفْحِ والإِعْرَاضُ بالكَشْحِ وثَنْيُ العِطْف معان مترادفة، والمقصود أن يلوي وجهه تكبرا واختيالا على من افتقر وقل متاعه من الناس، يقول : لا تتكبر ولا تختل إذا ساعدتك المقادير فكنت غنيا قادرا واسعا، بل الزم جناب التذلل للمساكين، وحافظ على كلماتك أن تند وتنفلت، فإن أسعد الناس من ملك لسانه .

ساعدك الجد : ساعدك الحظ والقدر في نوال الغنم والغنى .

زُمَّ : من الزمام، أي كن قائدا حافظا للسانك .
إنْ نَدَّ : إن شرد وتمرد، من ند البعير إذا شرد .
ما أسعد من زَمّ : أسلوب مدح ..

وَنَفِّسْ عَنْ أَخِيْ البَثّْ*** وَصَدِّقْهُ إِذَا نَثَّ
وَرُمَّ العَمَــلَ الرَّثّْ*** فَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ رَمّْ

الشرح : ونفس الكرب وفرج الهم عمن يبث إليك همه وغمه وكربه، وصدق أخاك إذا بث إليك خبره ولا تتهرب منه أو تلح عليه في استيثاق صدقه .

وكمل العمل الناقص وزينه بجميل الخصال فإن فلاح الإنسان بجمال الأعمال وكمال الأفعال.

نَفِّس : فَرِّج ..

أخو البث : أخوك الذي يبث إليك همومه .

صدقه إذا نَثَّ : اقْبَلْ خبره إذا بثه إليك .

ورُمَّ : أكمل وجمل .

العمل الرَّثّ : الناقص البالي الذي لا زينه فيه، منه الثوب الرث .

وَرِشْ مَنْ رِيْشُهُ انْحَصّْ*** بِمَا عَمَّ وَمَا خَـصّْ
وَلاتَأْسَ عَلَى النَّقْـصْ*** وَلاتَحْرِصْ عَلَى اللَّمّْ


الشرح :

رِشْ : أمر، من الرياش أو اللباس، أي أَلْبِسْ، ومَن ريشه انحص أي من افتقر وساء حاله، وريشُه انحص يعني حُلق شعره كناية عن عدم وجود ما يستره . والحَصّ حلْق الشعر ، وانحص شعره أو ريشه : انحلق .

بما عم وما خص: أي بكل ما تستطيع من عون ومساعدة، سواء من مالك وعونك الخاص أو بما تستدعيه من مساعدة عموم الناس .

ولا تأس على الفقر والمسكنة، ولا تحزن من قلة المتاع في الدنيا، ولا تكن حريصا على جمع حطامها ولم فتاتها فهي لم تخلق للخلود ولا للجمع واللم .

وَعَادِ الخُلُقَ الرَّذْلْ*** وَعَوِّدْ كَفَّكَ البَذْلْ
وَلا تَسْتَمِعِ العَذْلْ*** وَنَزِّهْهَا عَنِ الضَّمّْ

الشرح :

كن عدوا للأخلاق الرذيلة، وتعود الكرم والبذل، ولا تسمع لمن يلومك في الكرم وطِيب الأَرْيَحِيَّة وكثرة البذل، ونَزِّهْ نفسك عن الشح وكن بعيدا عن صفة البخلاء وهي ضم اليد إلى العنق كما قال تعالى:{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]
وَزَوِّدْ نَفْسَكَ الخَيْرْ*** وَدَعْ مَا يَعْقُبُ الضَّيْرْ
وَهَيِّءْ مَرْكَبَ السَّيْرْ*** وَخَفْ مِنْ لُجَّةِ اليَّمّْ

الشرح :

زود نفسك ما يجعلها صاحبة غنيمة في الآخرة، وذلك بالإكثار من الطاعات وفعل الطيبات، واترك ودع ما يئول بك إلى عاقبة الضرر والخسران، وهيء مركبا قويا لسيرك في طريق الآخرية، واخش من اللُّجَج والأمواج العالية وهي الفتن من شهوات وشبهات فإنها تذهب بالأعمال الطيبات والباقيات الصالحات .

بِذَا أُوْصِيْكَ يَاصَاحْ*** وَقَدْ بُحْتُ كَمَنْ بَاحَ
فَطُوْبَى لِفَـتَىً رَاحْ*** بِآدَابِــــيَ يَأْتَمّْ

الشرح :

بما سبق من وصايا أنصحك يا صاحبي، وقد بحت لك بالنصح الشفيق كما باح لك عدوك بالإغراء الذميم، فالفلاح والنجاح للفتى الذي يأخذ بنصحي الشفيق وآدابي ووصايا ويقصدها حفظا وفهما ودعوة ... وراح : يراح راحة أخذته للمعروف خفة وأريحية ...


كتبه: أبو محمد رضا أحمد صمدي

منقول 
طريق الإسلام  
القصيدة 
هنــــــــــــا 

الأحد، 7 أبريل 2013

خشية الله بالغيب



  خشية الله بالغيب
 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنحن بأمس الحاجة لمدارسة هذا الموضوع ومراجعته، وتدبر النصوص الواردة فيه، تعظيماً لما عظمه الله تعالى في هذه العبادة القلبية، فالفتن تحيط بنا من كل جانب، خصوصاً ذنوب الخلوات التي زينها شياطين الإنس والجن.. والعلاج الأساس في مواجهة هذه الذنوب إقامة عبادة خشية الله تعالى بالغيب، فتمنعُه بإذن الله من تعاطي المحرمات، بالنظر أو السماع أو اللسان أو الطعام أو المشي.. الخ.

ومن آثار الخشية: قيام العدل والإنصاف والصدق والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا أردت تحقيق هذه العبودية، فلتكن حالك في الخلوة أفضلَ عند الله من حال مشاهدة الناس، ولا تجعل اللهَ تعالى أهونَ الناظرين إليك.

ومن آثار الخشية: مغفرة الذنوب ودخولِ الجنة والأجرِ الكبير.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12].
وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33].

وقال الله تعالى في وصف عباده المتقين: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49].
وقال الله تعالى في بيان صفات الذين يستجيبون لنذارة الرسول: { إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } [فاطر: 18].
ومن خاف وقوفه أمام الله يوم القيامة للحساب كانت الجنّةُ مأواه، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41]. وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].
وخشية الله بالغيب هي علامة الصدق والإيمان، والعلم بالله تعالى بأنه السميع البصير العليم الذي لا تخفى عليه خافية، وكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخشى، ولذلك رفع الله تعالى مقام الخشية، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .واعلم أن الله تعالى يبتلي عبده فتَدْنُوا مِنه المعصية، ويَسْهُلُ عليه اقترافها حال بُعْدِ أنظار الناس عنه؛ ابتلاءً له من الله تعالى؛ هل عبدُه يَخْشَى اللهَ تعالى بالغيب أو لا يخشاه إلا بحضور الناس فقط؟فانتبه لذلك دائماً حينما تكون خالياً، واجعل نُصب عينيك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].

ومن الأعمال التي لا يراها الناس أعمالُ القلوب، فاحذر معصية الله بقلبك، وأعظمها الشرك، فلا يتعلَّق قلبُك ولا يخشى ولا يرجو إلا اللهَ تعالى وحده.
ومن معاصي القلب: الكِبرُ، والإعجابُ بالنفس، والحسد، والغرور، والرياء، وحبُ السمعة والظهور.
ومن علامات مرض القلب بالشهوات: الطمع بغير ما أحل الله تعالى، قال الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32].
فدلَّ على أن الطَّمَعَ بغيرِ ما أحلَّ اللهُ علامةٌ على مرضِ القلب، فاحذر كلَّ الحَذَرِ من هذه العلامة الدالة على مرض القلب، ولا رادع لها إلا خشية الله بالغيب.

فما أعظم مقام عبودية قلب المؤمن لله وحده وقد طَهَّره الله من الشرك، ومن التعلق بالدنيا، ومن أمراض الشبهات والشهوات.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» (أخرجه مسلم) (1)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجَ مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات».(2)
وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «...ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلُحَت صَلُحَ الجَسَدُ كلُّه، وإذا فسدت فَسَدَ الجَسَدُ كلُّه، ألا وهي القلب».(3)

وقال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 3].
وقد كان رِضَى الله تعالى وثناؤه على أهل البيعة تحت الشجرة، لعلمه بحقيقة ما وقر في قلوبهم، قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18]. ولذلك كان من المشروع في حق المؤمن أن يدعوا بدعاء الراسخين في العلم، قال الله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرِّف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» (أخرجه مسلم) ، من حديث عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما.ومن أهم أسباب طمأنينة القلب ذكر الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28]. ومن أنواع الانحراف في الخشية التي حذرنا الله تعالى منها، هي تقديم خشية الناس على خشية الله؛ أو أن يخشى الناس كما يخشى الله، فيسكتُ عن الحق، أو يَتَكَلَّم بالباطل خشيةَ الناس، أو خوفاً من ردة فعل السلطان، أو ضغط أهل الباطل في وسائل الإعلام... فيسكتُ عن بيان الحق أو يسكت عن النهي عن الباطل.

وأعظَمُ من ذلك أن يتكلَّم بالباطل خوفاً منهم، والصواب أن يُبَيِّن الحقَّ بالأسلوبِ الأمثل ولا يخافُ لومة لائم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]. وقال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]. وسبب خوف بعض الناس من غير الله، هو الشيطان الذي يوسوس لهم ويخوفهم من أوليائه الظلمة، فالحذر الحذر من ذلك، وإنما الواجب أن يُخْلصِ عبادة الخوف لله وحده.
 
قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. وقال الله تعالى: {فلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].

اللهم أصلح قلوبنا وطهرها، وارزقنا خشيتك بالغيب والشهادة. والحمد لله رب العالمين.

 

 (1) صحيح مسلم» كِتَاب الْقَدَرِ» بَاب تَصْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى الْقُلُوبَ كَيْفَ - حديث رقم 4804
(2) رواه مسلم - المسند الصحيح - حديث رقم 2564..
(3)رواه البخاري - الجامع الصحيحرقم: 52