السبت، 29 أكتوبر 2011

فضــل أيــام عشر ذي الحجة .



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد:

فإن الخالق لجميع المخلوقات جل وعلا قد فضل بعضها على بعض، واختار منها ما يشاء، قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68].

ومن هذه الأزمنة الفاضلة، التي فضلها الله على غيرها أيام عشر ذي الحجة، قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]. والإفساد بالشيء دليل على أهميته وعظمته، قال ابن عباس والزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: "إنها عشر ذي الحجة"، قال ابن كثير - رحمه الله -: "وهو الصحيح"[1].

فال تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 28].

قال ابن عباس: "الأيام المعلومات أيام عشر ذي الحجة"[2].

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من أفضل الأيام، وأن العمل الصالح فيها أعظم من غيرها، روى البخاري والترمذي من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء"[3].

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد"[4].

وفي هذه الأيام العشر يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم القر، وهي من أعظم الأيام عند الله، روى أبو داود في سننه من حديث عبدالله بن قرط: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر، ثم يوم القر"[5] [6].

وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم تباهى بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟"[7].

فهو يوم المغفرة والعتق، وصومه يكفر سنتين، روى مسلم والترمذي من حديث أبي قتادة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "صيام يوم عرفة: إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده، والسنة التي قبله"[8].

قال ابن حجر: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة أنها مكان لاجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها[9]، وقال ابن رجب: لما كان الله سبحانه و تعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام و ليس كل أحد قادرًا على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين و القاعدين، فمن عجز عن الحج في كل عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد[10]. اهـ.

ولا خلاف في تفضيل أيام العشر على بقية أيام السنة، لقوة النصوص في ذلك، والخلاف في الليالي، فقيل إن ليالي رمضان أفضل، وممن رجح ذلك ابن القيم، فقال وبهذا التفضيل يزول الاشتباه، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان، إنما فضلت باعتبار ليلة القدر، وهي من الليالي، وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه، إذ له يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم التروية[11].

وينبغي لمن وفقه الله لمعرفة فضل هده الأيام، وأمد له لي عمره، أن يجتهد فيها بكثرة الأعمال الصالحة، فما هي إلا أيام معدودة ثم تنقضي، وكان السلف الصالح يجتهدون فيها، وكان سعيد بن جبير يجتهد فيها اجتهادًا عظيمًا، حتى ما يكاد يقدر عليه.

ومن الأعمال الصالحة في أيام العشر:

حج بيت الله الحرام، وهو من أفضل الأعمال والقربات، قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97].

روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان".

وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم – "إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه، ووسعت له عليه في المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام، لا يفد إلى لمحروم".

ومنها الصيام، قال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184] وقال تعالى بعدما ذكر المسارعين إلى الخيرات من الرجال والنساء ﴿ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].

روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صام يومًا في سبيل الله بعد الله وجهه من النار سبعين خريفًا".

وروى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد".

ومنها الصدقة قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262].

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما نقصت صدقة من مال".

وروى الترمذي في سننه من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار".

ومنها ذكر الله، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].

وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم".

قال ابن القيم - رحمه الله -: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها، لكفى بها فضلًا وشرفًا".

والذكر عمومًا، والتكبير خصوصًا من شعائر هذه الأيام، قال تعالى: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28].

وتقدم حديث: "فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد" وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.

وكان السلف يحرصون على إحياء هذه الشعيرة في أيام العشر، وصفة التكبير: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد".

وغير ذلك من أبواب الخير العظيمة التي فتحها الله لعباده.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] تفسير ابن كثير (14/ 338).

[2] صحيح البخاري، باب فضل العمل في أيام التشريق.

[3] صحيح البخاري برقم (969)، وسنن الترمذي برقم (757)، واللفظ له.

[4] (9/ 323-324)، وقال محققوه: حديث صحيح.

[5] يوم القر: هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة.

[6] برقم (1765) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 331) برقم (1552).

[7] برقم (1348).

[8] مسلم برقم (1162)، والترمذي برقم (749) واللفظ له.

[9] فتح الباري (2/460).

[10] لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي (ص 313).

[11] زاد المعاد (1/57) بتصرف


منـــــــــــقـــــــــــــــــــــــ الألوكة ــــــــــــــــــــول

كتــبـــــــ د. أمين بن عبد الله الشقــاوي ـــــــــــــه


الخميس، 27 أكتوبر 2011

معاني العقيدة من خلال فريضة الحج


معاني العقيدة من خلال فريضة الحج
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والـســـلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين ـ نبينا محمد ـ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: ففي الحج معان عظيمة، وحكم بالغة، ومنافع كثيرة،
كـمـا قال سبحانه: ((
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ))[الحج: 28]،
وفي هـذه الصفـحـات نورد جمـلـة مـن معاني العقيدة
ومسائل أصول الدين من خلال هذه الفريضة:

أولاً:التسليم والانقياد لشرع الله تعالى:
كم نحتاج ـ أخي القارئ ـ إلى ترويض عقولنا ونـفـــوسـنـا
كي تنقاد لشرع الله (تعالى) بكل تسليم وخضوع ،
كما قال (سبحانه): ((
فَلاوَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
))[النساء: 65].

فالحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم ، فإنّ تنقل الحجاج بـيـن المـشاعر ،
وطوافهم حول البيت العتيق ، وتقبيلهم للحجر الأسود ، ورمي الجمار...
وغيره كـثـيـر: كل ذلك أمثلة حية لتحقيق هذا الانقياد لشرع الله (تعالى) ،
وقبول حكم الله (عز وجل) بـكـل انـشـــراح صدر ، وطمأنينة قلب.

لـقــد دعا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) فقالا: ((
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ))[البقرة: 128].
لقد دعوا لنفسيهما ، وذريتهما بالإســـــلام ،الذي حقـيقـته خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح.
ورضـي اللـه عـن الفـاروق عمـر إذ يقـول عن الحجـر الأسود
: »إني أعلم أنك حجرلا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ماقبلتك« (1).

يقول الحافظ ابن حجر:
» وفي قول عمر هذا التسليم للشارع فـي أمور الدين ،
وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها ، وهو قاعدة عظيمة في اتباع الـنـبــي -صلى الله عليه وسلم-
فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه« (2).

ويقــول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني (رحمه الله):
»ومن مذهب أهل السنة: أن كل ما سمـعـه المرء من الآثار(3) مما لم يبلغه عقله ،
فعليه التسليم والتصديق والتفويض والرضا ، لا يتصرف في شيء منها برأيه وهواه«(4).

ويقول ابن القيم (رحمه الله): »إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم،وعـــــدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع ، ولهذا لم يحك الله (سبـحـانـه) عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء ،أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما، ونـهـاهـــا عنه، وبلغها عن ربها، بل انقادتْ، وسلمتْ، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، ومــــا خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانه واستسلامها بسبب عدم معرفته ، وقد كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نـهـى عـــــــن ذلك؟ ولِمَ فعل ذلك؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام« (5)

ثانياً : إقامة التوحيد:
إن هذه الشعيرة العظيمة قائمة على تجـريـــد الـتـوحـيــــــد لله وحده لا شريك له؛
قال (سبحانه): ((وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك
بي شـيـئـا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود))
[الحج: 26].
وحذر (سبحانه) من الشرك ونجاسته ، فقال (عز وجل): ((فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور
* حنفاء لله غير مشركين به)) [الحج: 3031].
بل من أجل تحقيق التوحيد لله وحده ، والكفر بالطاغوت ، شُرع للحاج
أن يستهل حجه بالتلبية قائلاً:
» لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك«.
ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف ـ بعد الفاتحة
ـ بسورتي الإخلاص (قل هو الله أحد) ، و(قل يا أيها الكافرون) ،
كما كان يفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
كما شَرعَ الله (تعالى) التهليل عند صعود الصفا والمروة ،
فيستحب لـلـحـــــاج والمعتمر أن يستقـبل القبلة ـ عند صعوده الصفا والمروة ـ
ويحمد الله ويكبره ويقول: »لا إلــــه إلا الله، والله أكـبـر ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
له الملك ، وله الحمد ، يحي ويمـيـت، وهو على كل شيء قدير،
لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده
«.
ومن أجل تحقيق التوحيد أيضاً كان خير دعاء يوم عرفة أن يقال:
»لا إله إلاالله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ،
يحي ويميت ، وهو على كل شيء قدير«
.
وفي مناسك الحج وشعائره تربيةٌ للأمة على إفراد الله (سبحانه) بالدعاءوالسـؤال والطلب ،
والرغبة إليه ، والاعتماد عليه ، والاستغناء عن الناس ،والتعفف عن سؤالهم، والافتقار إليهم؛
فالدعاء مشروع في الطواف والسعي وأثناء الوقوف بعرفة ،
وعند المشعر الحرام ، وفي مزدلفة، كما يشرع الدعاء
وإطالته بعد الفراغ من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق.



ثالثاً : تعظيم شعائر الله (تعالى) وحرماته:
قال الله (تعالى) ـ بعد أن ذكرأحكاماً عن الحج ـ:
((ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه))[الحج: 30].
والحرمات الـمـقـصودة هاهنا أعمال الحج المشار إليها في
قوله (تعالى): ((ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم))[الحج: 29](6).
وقـال (سـبـحـانـه): ((ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب))[الحج: 32]،
فتعظيم مناسك الحج عموماً من تقوى القلوب (7).
وتعظيم شعائر الله (تعالى) يكون بإجلالها بالقلب ومحبتها ، وتكميل العبودية فيها؛
يقول ابن القيم (رحمه الله): »وروح العبادة هو الإجلال والمحبة ،
فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت« (8).

رابعاً:
محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل أعمال القلوب ، وأفضل شعب الإيمان،
ومحبة الرسول تستوجب متابعته والتزام هديه ، وإن التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسـلم-
أثـنـــاء القـيـام بمناسك الحج سبب في نيل محبته ،
حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: »خذوا عني مـنـاسـكـكم« ،
وفي اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- تحقيق لمحبة الله (تعالـى)؛
كما قال (سبحانه): ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله))[ آل عمران: 31].


خامساً:تحقيق الولاء بين المؤمنين والبراءة من المشركين:
كم هو محزن حقاً تفرق المسلمين شيعاً وأحزاباً.. وتمزقهم إلى دول متعددة ومتناحرة..
وقد غلبتْ عليهم الـنـعــــرات الجاهلية المختلفة ، وإن فريضة الحج أعظم علاج لهذا التفرق والتشرذم ،
فالحج يجمع الشمل ، وينمي الولاء والحب والنصرة بين المؤمنين
، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي ـ
الكتاب والسنة ـ وقبلتهم واحدة ، فهم في الحج يزدادون صلة
واقتراباً، حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد، وزمان واحد، ويؤدون ـ جميعاً ـ مناسك واحدة.
كما أن فـي الـحــــج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين:
حيث الحج مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق ، وبذل الـمعروف
أياً كان ، سواء أكان تعليم جاهل ، أو هداية تائه ، أو إطعام جائع ، أو إرواء غليل ، أو مساعدة ملهوف.وفي المقابل: ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم؛
يقول ابن القيم: » استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك« (10).لقد لبى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد ، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية ، وأفاض من عرفات مخـالـفـاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم ، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.ولما كان أهل الشرك يدفـعـــــون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس ،

فخالفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فدفع قبل أن تطلع الشمس.وأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- عـوائــد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: »كل شيء من أمر الجاهـلـيـــــة تحت قدمي موضوع« (11)؛ يقول ابن تيمية: »وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات ، مثل: دعواهم يا لفلان ، ويا لفلان ، ومثل أعيادهم ، وغير ذلك من أمورهم« (12).

سادساً: تذكر اليوم الآخر واستحضاره:
فإن الحاج إذا فارق وطنه وتحمل عـنــاء السفر: فعليه أن
يتذكر خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وأهوالها.
وإذا لبس المحرم ملابس الإحرام: فعليه أن يتذكر لبس كفنه ،
وأنه سيلقى ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا.
وإذا وقـف بـعـرفـة: فـلـيـتـذكـر مـا يشاهده من ازدحام الخلق
وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم،
موقف القيامة واجتماع الأمـم في ذلك الموطن (13) ؛
قــال ابن الـقـيـم: فـلـلـه ذاك الموقف الأعظم الذي... كموقف يوم العرض ، بل ذاك أعظم
نسأل الله (تعالى) أن يتقبل منا ومن المسلمين صالح الأعمال ، وبالله التوفيق.


(1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج ، باب تقبيل الحجر، حديث رقم 1610.
(2) فتح الباري ، جـ3ص463.
(3) أي : الآثار الصحيحة .
(4) الحجة في بيان المحجة ، جـ2 ص435.
(5) الصواعق المرسلة ، م4 ، ص1560 ، 1561.
(6) انظر: تفسير ابن عطية ، جـ4 ص120.
(7) انظر: تفسير الطبري ، جـ17 ص157.
(8) مدارج السالكين ، جـ1 ص495.
(10) تهذيب سنن أبي داود ، جـ3 ص309.
(11) أخرجه مسلم ، كتاب الحج ، باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ح/147.
(12) اقتضاء الصراط المستقيم ، جـ1 ص301.
(13) انظر: مختصر منهاج القاصدين ، ص48.



منــــــــــــــــــــــــقــــــــــــ صيد الفوائد ـــــــــــــــــــــــول


هل الأضحية واجبة على الحاج؟

هل الأضحية واجبة على الحاج؟
السؤال: هل الأضحية واجبة على الحاج ؟


الجواب:


الحمد لله


اختلف العلماء في حكم الأضحية ، فذهب جمهور العلماء إلى أنها سنة مؤكدة ، وذهب آخرون إلى أنها واجبة على القادر ، وقد يبق بيان ذلك في جواب السؤال (36432)


وهذا الخلاف إنما هو في حق غير الحاج ، وأما الحاج فقد اختلف العلماء في حكم الأضحية له ، بين قائلٍ بالمشروعية – سواء الاستحباب أم الوجوب - ، ومنهم من قال بعدم المشروعية.


والذين قالوا بعدم مشروعية الأضحية للحاج اختلفوا في سبب ذلك على قولين :


الأول : أن الحاج ليس له صلاة عيد ، ونسكه هو هدي التمتع أو القِران .


والثاني : أن الحاج مسافر ، والأضحية مشروعة للمقيمين ، وهذا قول أبي حنيفة ، وعنده أن الحاج إن كان من أهل مكة : فهو غير مسافر ، وتجب عليه الأضحية .


وهذا تفصيل مذاهبهم وبعض أقوالهم :


1. أما الحنفية : فقد جاء في " المبسوط " ( 6 / 171 ) :


"وهي واجبة على المياسير والمقيمين عندنا" . انتهى.


وفي " الجوهرة النيرة " ( 5 / 285 ، 286 ) :


"ولَا تجب عَلى الحَاجِّ الْمُسافر ، فأَمَّا أَهلُ مكَّةَ فإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيهِم وإِنْ حَجُّوا" انتهى .


2. وأما المالكية : فقد قالوا بأنه لا أضحية على الحاج لكونه حاجّاً لا لكونه مسافراً .


ففي " المدونة " ( 4 / 101 ) :


"قَالَ لِي مَالِكٌ : لَيس عَلَى الحَاجِّ أُضحِيةٌ وَإِن كَان مِن سَاكني مِنًى بَعدَ أَن يَكُون حاجًّا ،


قُلتُ : فالناسُ كلهُم عَلَيهِم الأَضَاحِي فِي قَولِ مَالِكٍ إلَّا الحَاجَّ ؟ قَالَ : نَعَم" انتهى .


3. وقال الشافعية باستحباب الأضحية للحاج وغيره .


قال الإمام الشافعي رحمه الله :


"والحاج المكي والمنتوي [أي المنتقل المتحول من بلد إلى بلد] والمسافر والمقيم والذكر والأنثى ممن يجد ضحية : سواء كلهم ، لا فرق بينهم ، إن وجبت على كل واحد منهم : وجبت عليهم كلهم ، وإن سقطت عن واحد منهم : سقطت عنهم كلهم ، ولو كانت واجبة على بعضهم دون بعض : كان الحاج أولى أن تكون عليه واجبة ؛ لأنها نسك وعليه نسك ، وغيره لا نسك عليه ، ولكنه لا يجوز أن يوجب على الناس إلا بحجة ولا يفرق بينهم إلا بمثلها" انتهى .


" الأم " ( 2 / 348 ) .


4. وقال ابن حزم رحمه الله :


"والأضحية للحاج مستحبة كما هي لغير الحاج .


وقال قوم : لا يضحي الحاج ... .


وقد حضَّ رسول الله عليه السلام على الأضحية فلا يجوز أن يمنع الحاج من الفضل والقربة إلى الله تعالى بغير نص في ذلك" انتهى باختصار .


" المحلى " ( 5 / 314 ، 315 ) .


5. وأما الحنابلة : فالأضحية عندهم جائزة للحاج .


قال ابن قدامة رحمه الله :


"فَإِن لَم يَكُن مَعَه هَديٌ ، وَعَلَيهِ هَديٌ ، وَاجِبٌ ، اشتَرَاهُ ، وَإِن لَم يَكُن عَلَيهِ وَاجِبٌ ، فَأَحَبَّ أَن يُضَحِّيَ ، اشتَرَى ما يُضَحِّي بِه" .


" المغني " ( 7 / 180 ) .


وقد جاء في الحديث عن عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( 5239 ) وَمُسْلِمٌ ( 1211 ) .


وقد ردَّ بعض أهل العلم – كابن القيم - الاستدلال بهذا الحديث ، وقالوا : إن المراد بالأضحية هنا : الهدي .


وانظر : " زاد المعاد " ( 2 / 262 – 267 ) .


واختار شيخ الإسلام ابن القيم وتلميذه ابن القيم أن الحاج لا يضحي ، وانظر : " الإقناع " ( 1 / 409 ) و " الإنصاف " ( 4 / 110 ) . ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، فقد سئل رحمه الله : كيف يجمع الإنسان بين الأضحية والحج ، وهل هذا مشروع ؟


فأجاب : "الحاج لا يضحي ، وإنما يهدي هدياً ، ولهذا لم يضحِ النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وإنما أهدى ، ولكن لو فرض أن الحاج حج وحده وأهله في بلده فهنا يدع لأهله من الدراهم ما يشترون به أضحية ويضحون بها ، ويكون هو يهدي ، وهم يضحون ، لأن الأضاحي إنما تشرع في الأمصار ، أما في مكة فهو الهدي " انتهى من "اللقاء الشهري".


والله أعلم .



الإسلام سؤال وجواب

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

حقيقة العلم المورث للخشية .

الســـلام عليكم ورحمة الله وبركاته

*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*.*

حقيقة العلم المورث للخشية

آيتان عظيمتان تحثَّان الخلق جميعًا على العلم، وتُبَيِّن فَضْلَه وارتباطَ العلم بخشية الله تعالى، كلَّما طالعتهما يَتَبَدَّى لي منهما معنى عظيمٌ ، وحقيقةٌ كبرى في هذا الكون وهذه الحياة.
الآية الأولى:
قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9.
فهذه الآية يستدل بها عددٌ مِن أهل العلم على أهميَّة العلم الشرعي المتَخَصِّص وضرورة الاجتهاد في تحْصيلِه.
ودعونا نقِف وقفةَ تأمُّل مع هذه الآية، فنرى سباقها ولحاقها وسياقها وعلامَ يدل؟
لقد قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وذلك بعد أنْ قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.
فبنظرة تأمُّلٍ يسيرة نلحظ أنَّ ثناءَ الله تعالى على ذلك العلم الحقيقي الذي يسوق ويقود صاحبه إلى الله - عزَّ وجلَّ - يكون بالعلم بالله وبالعمل بما يرضيه بالقنوت آناء الليل ساجدًا وقائمًا، خاشعًا لله تعالى، خائفًا من أهوال يوم القيامة، يرجو ما عند الله من رحمات ومغفرة.
فالعلمُ الحقيقيُّ هو أن تُقْبِل على الله بالصلاة والذكر والدعاء، وتتقلَّبَ بين خوفك منه تعالى ورجائك منه، وهذا حقيقة التوحيد ولب العبادة.
أمَّا الآية الثانية:
فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28.
أرى أنَّه من الفهم الضيق لهذه الآية قصْرها على علماء القرآن والسنَّة فحسب، وإن كان أهل العلم بالقرآن والسنَّة على رأس العلماء، فشَرَف العلم بشرف المعلوم، لكنَّني أعتقد أن معنى الآية أوسع وأشمل من ذلك، ففيها إعجاز دلالي عظيم.
فالآية تتناول - والله أعلم - العِلْم بأشياء كثيرة؛ منها: العلم بالكون، والعلم بالماء، والعلم بالنبات، والعلم بطبقات الأرض، والعلم بالمُناخ، والعلم بالإنسان، والعلم الحيوان، فكلُّ هاتِه العلوم من علِمها وانتفع منها فسيزيده ذلك العلم تمام الخشية من ربه؛ لعجائب تلك الآيات، وسر وجودها، فتورث صاحبها استحضار عظمة الرب - تبارك وتعالى - ومزيدًا من الإيمان به؛ لذا قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
ومِن جميل ما طالعْتُه في ذلك، ما كتَبَه شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (7/21) ما نصُّه: "قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، والمعنى أنه لا يخشاه إلا عالِمٌ؛ فقد أخبر الله أنَّ كلَّ مَن خشِي الله فهو عالِم، كما قال في الآية الأخرى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ا.هـ .
وهنا قِصَّة أذكرها كتبها الأستاذ: وحيد الدين خان – رحمه الله - في كتابه: "الإسلام يَتَحَدَّى": ص 152 - 153، حيث نقل عن العلامة الهندي الدكتور عناية الله المشرقي أنه قال: كنتُ أدرس في كمبريدج، وذات يوم كانتِ السماءُ تمطر بغزارة، فخرجت من بيتي لقضاء حاجة، فإذا بي أرى الفلكي المشهور "السير جيمس جينز" ذاهبًا إلى الكنيسة والإنجيل والشمسية تحت إبطه، فدَنَوْتُ منه وسلَّمْتُ عليه، فلم يَرُدَّ عليَّ، فسَلَّمْتُ مرة أخرى، فسألني: ماذا تريد مني؟ فقلتُ له: أريد أن أسألك عن شيئين:
الأول: لماذا لا تَفْتَح مظلتك رغم نزول المطر؟!
فابتسم السير جينز، وفتح المظلة.
وأمَّا السؤال الثاني: فلماذا تذهب إلى الكنيسة وأنت عالِمٌ كبيرٌ ذائع الصيت؟!
وهنا توَقَّف العالِمُ الكبير لحظةً، ثم قال لي: نلتقي معًا هذا المساء لنناقشَ هذه القضية، فذهبتُ إليه في الموعد المحدد، فسألني على الفور: ماذا كان سؤالك لي في هذا الصباح؟
ودون أن ينتظرَ مني جوابًا، بدأ يتكَلَّم عن الكون ونظامه الدقيق المدهش، وعن الكواكب في السماء ونظامها العجيب المُحْكَم، وعن المجرَّات وأبعادها اللا متناهية، وطوفان أنوارها الباهرة... و…، فنظرْتُ إلى العالم الكبير فإذا به يبكي، ويداه ترتعدان من خشية الله!
ثم توقَّفَ فجأةً، وبدأ يقول: عندما ألقي نظرةً على روائع خلق الله يبدأ كياني يهتَزُّ مِن الجلال الإلهي، وعندما أركع أمام الله، أقول : إنك لعظيم، أحس بسعادة تفوق كل سعادة!
فقلتُ له: لقد تأثَّرْتُ كثيرًا بما قلتَ، فهل تسمحُ لي بقراءة آية مِن آيات كتابي المقدس (القرآن)؟
فأجاب المستر جينز: بكل سرور تفضل.
فقرأتُ عليه قولَه سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 27، 28].
وما كدتُ أتوقَّف حتى صرَخ السير جينز قائلاً: ماذا قلت؟
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}؟!
مدهش، غريب، عجيب جدًّا! مَنْ أنبأ محمدًا (صلى الله عليه وسلم )بهذا؟ هل هذه الآيةُ في القرآن حقًّا؟ لو كان كما تقول فاكْتُبْ شهادة عنِّي: أن القرآن وحي من عند الله!
لقد كان محمَّدٌ أميًّا (صلى الله عليه وسلم )، ولا يمكن أن يكشفَ هذا السر بنفْسِه، فالله هو الذي أخْبَرَه بهذا السِّرّ .........

منقــــــــــــول
كتبــه :خباب مروان الحمد

التشويق لحج البيت العتيق .

الســلام علـــيــكمــ ورحمـــة الله وبـــركـــاتــه

التشويق لحج البيت العتيق


الحمد لله الذي فرض على عباده حج بيته العتيق، وجعل الشوق إلى زيارته حادياً لهم ورفيقاً، والصلاة والسلام على من أنار الله به الدرب والطريق، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... أما بعد:

فإن الله تعالى فرض على عباده الحج إلى بيته العتيق في العمر مرة واحدة، وجعله أحد أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس...» وذكر منها: «حج بيت الله الحرام»[متفق عليه].

فالحج فريضة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فمن أنكر فرضيته وهو يعيش بين المسلمين فهو كافر، أما من تركه مع إقراره بفرضيته فليس بكافر على الصحيح، ولكنه آثم مرتكب كبيرة من أعظم الكبائر.

ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الأوطان وعدم مفارقتها، رغب الشارع في الحج ترغيباً شديداً، وجعل له فضائل جليلة، وأجوراً كبيرة، لأنه يتطلب مفارقة الأوطان والمألوفات من أهل ومال وصاحب وعشيرة، وكذلك حثاً للعباد على قصد هذا البيت بالحج والزيارة، وتشويقاً لهم إلى رؤية تلك المعالم التي هبط فيها الوحي ونزلت فيها الرسالة.

أخي سارع ولا تتأخر

قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله

غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعجلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له»[أحمد وأبو داود].وقال صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة،وتعرض الحاجة» [أحمد وابن ماجة وحسنه الألباني].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فننظر كل من كانت له جِدَةٌ ولم يَحُج، فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين.. ما هم بمسلمين". [صححه ابن حجر].

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "استكثروا من الطواف بهذا البيت، قبل أن يحال بينكم وبينه".

وقال الحسن: "لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة".

الحج يهدم ما كان قبله

عن عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط، فقبضتُ يدي. فقال: «مالك يا عمرو؟». قلت: أشترط. قال: «تشترط ماذا؟»، قلت: أن يُغفر لي. قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» [رواه مسلم].

الحجُّ طهارة من الذنوب

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

«من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [لفظ البخاري].

ولفظ مسلم: «من أتى هذا البيت» وهو يشمل العمرة. وعند الدار قطني: «من حج واعتمر»،

والرفث: الجماع، أو التصريح بذكر الجماع أو الفحش من القول.

قال الأزهري: "هي كلمة جامعة لما يريد الرجل من المرأة

". والفسوق: المعاصي. ومعنى: «كيوم ولد ته أمه» أي بلا ذنب.

قال ابن حجر: "وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات".

الحج من أفضل أعمال البر

عن أبي هريرة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله ورسوله. قيل ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور»[متفق عليه].

قال أبو الشعثاء: "نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تجهد البدن،

والصوم كذلك، والصدقة تجهدُ المال، والحجُّ يجهدهما".

فضل الحج المبرور

عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة» [متفق عليه].

والحج المبرور: هو الذي لا يخالطه إثم. وقيل: المتقبل. وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق. وقيل: علامة برّ الحج أن تزداد بعده خيراً، ولا يعاود المعاصي بعد رجوعه.

وعن الحسن البصري قال: "الحج المبرور؟ أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة".

وروي أن الحج المبرور هو إطعام الطعام، وطيب الكلام، وإفشاء السلام.

والصحيح أنه يشمل ذلك كله.

الحج أفضل الجهاد

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟

قال: «لكن أفضل الجهاد حج مبرور» [متفق عليه].

الحج جهاد المرأة

وعنها قالت: قلت يا رسول الله! ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: «لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حجّ مبرور» ، قالت عائشة: "فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله". [متفق عليه].

وعن أبي هريرة مرفوعاً: «جهاد الكبير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة» [النسائي وحسنه الألباني].

الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب

عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أديموا الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد» [رواه الطبراني والدارقطني وصححه الألباني].

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» [أحمد والترمذي وصححه الألباني].

فضل النفقة في الحج

عن بريدة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف» [أحمد والبيهقي وصححه السيوطي].

دعوة الحاج مستجابة:

عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله: دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم» [ابن ماجة وابن حبان وصححه الألباني].

الحاج في ذمة الله وحفظه:

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً»[رواه أبو نعيم وصححه الألباني].

حديث عظيم في فضل مناسك الحج:

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا خروجك من بيتك تؤمّ البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة. وأما وقوفك بعرفة، فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج - أي متراكم - أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك. وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك. وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة. فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك» [الطبراني وحسنه الألباني].

أخي المسلم...

لا تحرم نفسك من تلك الأجور وعظيم الهبات فإنّنا جميعاً في أمس الحاجة إلى الحسنات، ومغفرة الذنوب والسيئات، فلماذا التسويف والتأجيل، ومن ورائنا خطب جليل؟! ولماذا الفتور والكسل وأنت مأمورٌ بإحسان العمل؟!

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صَرورة في الإسلام» [رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي]. والصرورة: ترك الحج.

الحج واجب على الفور

واختلف العلماء: هل وجوب الحج على الفور أم على التراخي. قال الشنقيطي رحمه الله: "أظهر القولين عندي، وأليقهما بعظمة خالق السموات والأرض هو أن وجوب أوامره جل وعلا كالحج على الفور لا على التراخي، للنصوص الدالة على الأمر بالمبادرة، وللخوف من مباغتة الموت؛ كقوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران:133]. وكقوله: {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185]".

إليك إلهي قد أتيتُ ملبياً *** فبارك إلهي حجتي ودعائيا

قصدتك مضطراً وجئتك باكياً *** وحاشاك ربي أن ترد بكائيا

كفاني فخراً أنني لك عابد *** فيا فرحتي إن صرتُ عبداً مواليا

أتيتُ بلا زاد وجودك مطمعي *** وماخاب من يهفو لجودك ساعيا

إليك إلهي قد حضرتُ مُؤمّلاً *** خلاصَ فؤادي من ذنوبي ملبياً

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين